حال العرب مع مصر، هذه الأيام، تماثل وتطابق حال ذلك الأسير المصري الذي هرب من معسكر الاعتقال الإسرائيلي فلما أطل على مصر أنكرها وأنكرته، ومزقه الألم والتردد والخيبة والحيرة فتفجر يتساءل مبهوتاً، بلسان الشاعر محمود درويش: “هل أنت مصر؟ هل أنت مصر؟!”.
ذلك إن العرب يعرفون ويحبون ويقدرون مصر الأخرى، مصرهم: مصر الثورة والاشتراكية والحرية والوحدة، مصر المقاتلة ولو مهزومة، مصر المناضلة ولو فقيرة، مصر الأمل والرجاء وحصن الأمان الأخير لطموحاتهم وأحلامهم بمستقبل أفضل، مع معرفتهم الكاملة بواقع شعبها المعيشي البائس وعدم التوازن بين قدراتها المادية المحدودة ومسؤولياتها الوطنية والقومية غير المحدودة.
وهم يرفضون، بعد، مصر السادات هي التي خرجت عليهم فجأة من رحم المجهول، زاعمة إنها هي هي مصر لم تتبدل ولم تتغير بشهادة النيل فيها والأهرامات وأبي الهول المحافظ على صمته منذ فجر التاريخ.
إنهم مع مصر، ولكنهم ضد هذه “المصر”، وضدها لأسباب وبدوافع ومعطيات مصرية.
فمصر التي عرفوا وخبروا وأحبوا طوال عشرين سنة أو يزيد كانت – فعلاً – “الدولة الكبرى في الشرق، تصون ولا تبدد، تحمي ولا تهدر، تشد أزر الصديق، ترد كيف العدو” وتقف مع كل قضية عادلة ومع كل شعب مناضل، وتعرف “إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة” وتعمل في ضوء هذه الحقيقة البسيطة والخالدة.
إنهم مع مصر.
ولأنهم مع مصر، فهم ضد التخاذل والتفريط والاتفاقات الجزئية والانفتاح الاقتصادي، وضد “الصلح” مع الإمبريالية الأميركية، والرجعية العربية العميلة، واستطراداً مع إسرائيل، حتى لو تذرع أبطال المصالحات بمنطق “عصر الوفاق الدولي” وخرافة “التضامن العربي” والترهات المكشوفة عن وجود إسرائيليين: واحدة عاقلة ومسالمة ومتعاونة ومحبة للخير والإنسان العربي هي تلك المحصورة ضمن حدود 1967 وليس 1948، مثلاً، أو 1949، وأخرى شريرة باغية معتدية متواطئة مع الاستعمار وحامية لمصالحه في المنطقة، هي إسرائيل المتمددة – بقوة الاحتلال – إلى خارج حدود 5 حزيران 1967.
والعرب يفهمون جيداً إن الذين يريدهم أن يبلعوا أكذوبة وجود “إسرائيليين” هو نفسه الذي يريدهم أن يبلعوا أكذوبة “مصر الواحدة” بمعنى أن مصره هي ذاتها مصرهم، مصر الشعب العظيم والجيش العظيم وعبد الناصر العظيم… مصر 23 يوليو.
وهم يفهمون جيداً إن العكس هو الصحيح: فثمة إسرائيل واحدة، قامت بالعدوان وبالاحتلال الاستيطاني الاستعماري، وهي باقية بقوته، وسوف تبقى ما دامت موازين القوى في مصلحتها ومصلحة حماتها وداعميها من القوى الاستعمارية والإمبريالية في العالم، أما حكاية الحدود فليست أكثر من تفاصيل لخريطة موازين القوى إياها…
وثمة “مصران” : مصر العربية، زعيمة الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها في الأرض المناضلة ومن أجل غد يليق بكرامة إنسانها وكل إنسان، وبكرامة تراثها الحضاري وتاريخه، المقاتلة ضد قوى البغي والتسلط والطغيان في أي مكان وزمان… ومصر – الاتفاقات الجزئية والمنفردة، التي يحاول حكامها بيع عروبتها وثوريتها وأصالتها ودورها القيادي مقابل حفنة من … الرمال.
ومن حق العرب، بل من واجبهم، أن يحاسبوا – وبقسوة – قيادة مصر ، فهم أولاً وأخيراً يحاسبونها وفقاً للمقاييس التي أخذوها من مصر وعنها، وبموجب المبادئ التي لقنتهم إياها مصر… مصرهم.
فمصر هي التي خاطبتهم بقولها: ارفع رأسك يا أخي فلقد مضى عصر الذل والاستعباد..
ومصر هيه التي قالت: إن المقاومة الفلسطينية هي أنبل وأشرف ظاهرة عرفتها الأرض العربية بعد هزيمة 1967، وهي قد وجدت لتبقى،
ومصر هي التي قالت: إن عدوي وعدو أمتي هو الاستعمار وهو الصهيونية وهو الرجعية المتحالفة معهما.
ومصر هي التي أخبرتهم إن الطريق إلى فلسطين تمر بالقاهرة، وإن الطريق إلى القاهرة تمر بالقدس، وليس بواشنطن،
… وحتى مصر فاروق فهمت، مضطرة، هذه الحقيقة، وخضعت لمنطقها،
فأي مصر، إذن، هذه التي يزعمون إنهم باسمها ومن أجلها (!!) يخرجون من فلسطين ومن العروبة، ناهيك بمصر الأخرى… مصر 23 يوليو؟
أي مصر هذه التي لا يقبلها ولا يتعامل معها إلا اليانكي الأميركي والرجعي العربي عموماً، أي “السائح” السعودي، والكتائبي اللبناني، والتي يقف لحمايتها “سياف” كويتي مجند لقطع رأس كل قلم يتجرأ على ملامسة الحقائق المرة في الواقع العربي؟!