قبل سنتين تقريباً، استشف شاعر شعبي مصري المخاطر التي تتهدد بلاده، نتيجة للسياسة الحكيمة التي تمارسها “مدرسة الرئيس السادات في الحكم”، فقال في واحدة من قصائده:
“يا خوفي حتى م النصر
لنربح سينا ونخسر مصر”
… وها نحن أوشكنا أن نخسر مصر كلها ولما نستعد أكثر من ربع صحراء سيناء.
ذلك أن من مبادئ “مدرسة الرئيس السادات” أن “نعطي” كل شيء ودفعة واحدة، وأن “تأخذ” بالتقسيط الأميركي المريح.
ومن مراجعة الممارسات اليومية للحكم في مصر، بامتداد السنوات الخمس الأخيرة، وبالتحديد اعتباراً من 15 مايو (أيار) 1971 – تاريخ إعلان “ثورة التصحيح” – نرى إن هذا الحكم قد منح نفسه للأصدقاء الأميركيين وحلفائهم من أهل النفط في الأرض العربية: تنصل من هويته وانتمائه الطبيعي ومبرر وجوده أصلاً، وغادر مواقع 23 يوليو متنازلاً عن ثوريته وعن زخمها النضالي وتوجهها الوحدوي وسعيها الدؤوب لتحطيم مجتمع النصف في المائة تمهيداً لإقامة مجتمع الكفاية والعدل في ظل الاشتراكية…
كل ذلك مقابل الخروج من موقع الحكم الوطني التقدمي “المعادي” للولايات المتحدة الأميركية…
ثم “أعطى” العلاقة التاريخية مع السوفيات، والتي كادت تستقر على امتداد الستينات فوق قاعدة ثابتة من التحالف الاستراتيجي المعادي للإمبريالية والاستعمار والصهيونية العالمية،
وأخيراً هدر دم الآلاف من شهداء جيشنا العظيم في مصر وسفح بطولاته المذهلة في عملية العبور المجيدة،
وكان طبيعياً أن ترافق هذا الهدر “تضحية” ببعض أعباء العلاقة النضالية النابعة من وحدة المصير مع الأشقاء العرب، وبالذات أولئك الذين قاتلوا معه أو ساعدوه في القتال.
كل ذلك مقابل اكتساب موقع “الصديق” في عين الولايات المتحدة الأميركية وقلبها، ومقابل أن يتباهى ومن بعد بالقول: أنا أثمن وأغلى حكم بالنسبة للأميركان…
وإذا تركنا السياسة، بالمعنى الواسع، إلى الوقائع المادية الملموسة كالأرض والمصالح المباشرة والمحددة، لخرجنا بالنتائج التجارية الآتية لممارسات المدرسة السياسية للرئيس السادات في الحكم:
لقد خسرنا الثورة في مصر، بمنجزاتها الناصرية التاريخية وبوهجها الذي كان يحرك المد القومي التقدمي في المنطقة برمتها، مقابل عشرة كيلومترات في سيناء،
وها نحن نكاد نخسر ما تبقى من عروبة مصر الرسمية مقابل عشرة كيلومترات أخرى في سيناء…
ذلك أن ممارسات المدرسة المشار إليها آنفاً انتهت بأن تقيم بين مصر والعرب ثلاثة حواجز دفعة واحدة: حاجز الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وحاجز الاحتلال السياسي الأميركي، وحاجز احتلال الإقليمية المصرية لقمة السلطة في مصر.. هذا مع العلم إن هذه الإقليمية – ورموزها البشرية معروفة تماماً – رجعية بالضرورة، وعملية للاستعمار بحكم الحاجة إلى دعمه وحمايته لتستمر في تسلطها على شعب مصر العظيم، ومفرطة بالتراب الوطني وبالسيادة بحكم الواقع العملي المعاش.
وليست أكثر من نكات ممجوجة وسخيفة تلك المقولات التي تتردد في تصريحات كبار المسؤولين المصريين، في مجال تزيين الاتفاقات الجزئية وتبريرها، والتي تتحدث عن “ضمان الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين”، أو عن استمرار روح الأخوة مع “رفاق السلاح ومعركة المصير الواحد من الأشقاء العرب الذين خاضوا معنا حرب أكتوبر المجيدة”.
ومن سخريات القدر أن تكون مصر الملكية ، مصر فاروق، قد ذهبت إلى الهدنة واتفاقات رودس المنفردة عام 1949، متعللة بتخلي العرب عنها وعن جيشها المحاصر في الفالوجة… بينما تذهب مصر الجمهورية، وبعد 23 سنة من ثورة عبد الناصر العظيمة، إلى الاتفاقات المنفردة عام 1975، وحكامها يزدهون ويتباهون بضخامة ما نالوه من المساعدات العربية ومن الدعم العربي.
لكن التاريخ يقول إن الذين ذهبوا إلى الهدنة والاتفاق المنفرد قد دفعوا عرشهم ونظامهم وسلطانهم ثمناً لتفريطهم المبرر لفظياً وصورياً… فكيف بمن لا يجدون لتفريطهم اليوم من مبررات غير الإشادة بنزاهة الأصدقاء الأميركيين وبنضالهم الشجاع من أجل السلام في العالم؟!
ومصر قطعة حية من التاريخ، تكاد تكون بدايته، وهو فيها أكثر منه في أي بقعة أخرى، يتنفس ويتحرك ويفعل ويفتح أكمام الزهر في شجيرة الحياة.