… وبين “خلده” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – “كريات شمونه” شعاب وهضاب وأودية تنسرب عبرها المفاوضات، بصعوبة شديدة سرعان ما تتحول إلى استحالة عندما ترتطم بجبلين صخورهما صوانية وأهلهما أصلب في الدفاع عن وجودهم من إرادة الفرض والإخضاع التي يحاول المحتل الإسرائيلي ممارستها علينا.
فهناك جبل لبنان حيث يريد المحتل إشعال فتنة مستفيداً من شبق بعض الأطراف المحلية إلى التسلط، جاهلة أو متجاهلة إن هذه الطريق قد توصل إلى “وطن قومي مسيحي” ولكنها لا توصل إلى حكم لبنان بالـ 10452كلم2، ولا إلى أبناء وطن من أي نوع، وإن كانت توصل – قطعاً – إلى تجديد الحرب الأهلية وإدامة الاحتلال الإسرائيلي إلى ما شاء الله،
وهناك جبل عامل، وهو هو الجنوب، بل إنه لبنان كله في هذه اللحظة، تماماً كما الجبل الآخر أو بيروت أو طرابلس أو البقاع، أو أي بقعة من لبنان هي لبنان كله، وربما أكثر قليلاً لأن الخطر عليه أشد وأفظع وأكثر إلحاحاً… وهذا الجبل مغيب أو غير حاضر بالقدر الكافي في المفاوضات الجارية الآن، ويكاد أهله يحسون إن مصيرهم متروك للمساومة بذريعة “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، وكأنما إنقاذهم هم وأرضهم ليس ممكناً ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن الضروري أن يقال، علناً وبأعلى صوت، إن الجنوبي يستشعر تمييزاً مؤلماً في طبيعة المعالجة والاهتمام بمصير أنحاء لبنان المختلفة، فمرة يرى الجهد كله مركزاً على “جبل لبنان” بوصفه قاعدة الكيان، ومرة أخرى على بيروت الكبرى باعتبارها قاعدة الحكم، ومرة ثالثة على طرابلس باعتبارها قاعدة العلاقة مع سوريا ومن ثم سائر العرب، ويبقى الجنوب في الغالب الأعم يعاني من وحشة القلق على المصير، ومن فظاعة الفتك الإسرائيلي اليومي باقتصاده وزراعته ومواسمه وأسباب حياته، ويرى في ذلك كله مقدمات للتسليم من جهة وللاستسلام من جهة أخرى ودائماً تحت الرعاية الأميركية المباركة.
والجنوبي قادر على وعي الاختلاف في الموقف بين الحكم وبين “القوى الأخرى” الضاغطة والفاعلة والراغبة في استغلال واقع الضعف الوطني العام الراهن للقفز إلى تحقيق مشروعاتها التقسيمية.
والجنوبي يعي أيضاً إن اشتعال النار قد فرض تقديم الجبل ثم طرابلس عليه، وإن الخوف من اشتعالها في العاصمة قدمها عليه، ولكنه يقدر إن إشعال تلك النيران كان مقصوداً ومفتعلاً وبين أغراضه أن تنشغل كل منطقة بنفسها عن الأخرى، وأن يزداد موقف الدولة ضعفاً بدل أن يقوي بأي ثمن، فتكون النتيجة أن يسقط الجنوب سهواً أو بالعجز عن منع سقوطه، أو يستخدمه المحتل الإسرائيلي رهينة لتحقيق مطامعه فيه مباشرة وهيمنته على لبنان كله وعلى ما ومن حوله أيضاً.
تماماً كما يقدر ابن عاليه وبعقلين والمختاره أن إشعال النار في الجبل إنما يستهدف تدجينه وأخضاعه للهيمنة الفئوية فإذا رفض فما عليه إلا أن يرحل إلى خارج “الكانتون” أو “الوطن القومي المسيحي” العتيد،
وللمناسبة فإن ابن الجبل يفهم بالشرط الإسرائيلي في إقامة “محطة للإنذار المبكر” في جبل الباروك (مثلاً) شيئاً أكثر من مخاطرها العسكرية ودلالاتها السياسية المباشرة، إنه يفهم منها إنها “حدود أمنه” لذلك المشروع التقسيمي يكفلها ويحميها المحتل الإسرائيلي بما يبقيها ما بقيت داخل مداره ومجاله الحيوي.
كذلك فإن الجنوبي يفهم من التهويل المستمر بـ “خطر الشيعة” تكاثرهم الدائم تحريضاً للمحتل الإسرائيلي للتدخل أما من أجل إنقاص هذا العدد المتضخم يوماً بعد يوم، وإما بإلغاء التأثير السياسي لهذه الكتلة البشرية الكبرى عن طريق ارتهان قرارها بإدامة الاحتلال.
وهكذا تلتقي مشاعر ابن بنت جبيل وتبنين وصور والنبطية وصولاً على صيدا، بمشاعر ابن عاليه وعين داره وعين زحلتا والباروك وبعقلين وغريفة وصولاً إلى حاصبيا، في أن مصدر الخطر واحد وإن تسمى هنا باسم “سعد حداد” وهناك باسم “سمير جعجع” أو فادي أفرام، وإن مصير البشر ذاته مطروح للمناقشة وليس فقط ولاءهم أو استعدادهم للتسليم بهيمنة هذا الطرف المحلي أو ذاك.
فإذا أضفنا إلى هذه الحقيقة إن أبناء الشمال والبقاع لا يلمسون اهتماماً بهم إلا في حالات “الشغب” و”التفجرات الأمنية”، المجهولة أو المجهلة المصدر والأسباب في الغالب، ويعزلون عن التأثير في مجرى المفاوضات، تبدت الصورة مفزعة وتحتاج إلى قرار شجاع من الحكم.
فهؤلاء جميعاً لا مرجع لهم في النهاية إلا الدولة، وإلا الحكم،
وبالإمكان أن يتحولوا من مصدر قلق وإضعاف إلى مصدر قوة للدولة والحكم بمقدار ما يصار إلى طمأنتهم – وبالملموس – إلى أن مصيرهم محسوم: هم من لبنان وفيه، بل هم لبنان بقدر مام هم لبنان أبناء المتن وكسروان وبلاد جبيل وسائر “الممتازين”.
والموقف المطلوب مطلوب تجاه معطلي جهد الحكم ومعرقليه، هنا، ومطلوب في الوقت نفسه تجاه محاولي إخضاعه وابتزازه على طاولة المفاوضات هناك.
وفي هذه المسألة يمكن للشريك الأميركي، أو الوسيط الأميركي، أو الصديق الأميركي أن يلعب دوراً حاسماً إذا ما أراد،
ولا نظن إن الدولة العظمى المعتذرة بضعفها عن مواجهة بيغن ستستطيع إقناع الناس – أيضاً – بأنها ضعيفة في مواجهة سمير جعجع أو إيلي حبيقة أو ديب انستاس،
ولننتظر نتائج المبارزة بين ريغان وبين المذكورين أعلاه!