حلت المرجعيات الروحية للطوائف المختلفة محل الأحزاب السياسية، وهي تتقدم في ظل الخواء السياسي وضعف الحكم نحن مركز القرار، كقوة مؤثرة تمهيداً لأن تكون قوة مهيمنة ومسيرة.
فبيانات المجالس الطائفية والملية تذكر بتلك التي كانت تصدر عن المكتب السياسي أو اللجنة المركزية لهذا الحزب أو ذاك، خصوصاً وأنها مثلها تعرض لمختلف الشؤون المحلية والعربية والإقليمية، الاقتصادية والثقافية وحتى العسكرية، فتحدد منها موقفاً بالتأييد أو بالتنديد.
وهذه المجالس عموماً، ومثلها المرجعيات، تعامل “الدولة” وكأنها بعض رعيتها، فتخاطبها من فوق وتعطي لنفسها حق الوصاية عليها ترشيداً وتنبيهاً وتحذيراً من العقاب وسوء المصير إن هي خالفت توجيهاتها وتعالميتها بما فيها من أوامر ونواه.
من خطب الجمعة، إلى عظات الأحد، إلى البيانات الدورية للاجتماعات العامية أو الاستثنائية للمجالس الملية، تنهال الوصايا والتوبيخات والتأنيب على الحكم والحكومة والشعب والدولة… أما التنويه فنادراً ما يكون له متسع.
الحرية للجميع،
وفي “دولة الطوائف” لا صوت يعلو على صوت الطوائف.
لكن الضحية الأولى تكون الدولة، بمواطنها ومؤسساتها إذ غالباً ما تلعب بيانات المجالس الملية دوراً إرهابياً مع تلك المؤسسات، يستوي في ذلك المجلس النيابي أو مجلس الوزراء، فضلاً عن رئيس الجمهورية المحاصر بالعمائم والقلنسوات يومياً.
والمشكلة أن المجالس الملية والمراجع الروحية تتمتع بحرية مطلقة: فلا هي تخاف من المحاسبة، فمن يجرؤ على محاسبة هؤلاء “المباركين”، ولا هي تخشى من اتهامها بالتعصب الطائفي إذ أنها مواليد شرعية للمؤسسة الطائفية المحكومة بقدر من التعصب مهما جملت الكلام وأظهرت التسامح وحسن النية تجاه “الآخرين”…
ثم إنها محصنة وتكاد تكون معصومة: فالرد قد يعتبر دعوة إلى الفتنة، والمناقشة قد تصير بثاً أو إثارة للنعرات الطائفية.
أي أن حريتهم في إطلاق الآراء والدعوات وتحديد المواقف مطلقة، بينما حرية “المدنيين” و”المواطنين” محظورة.
والحكم الضعيف، وبغض النظر عن النوايا، يقع في أسار هذه المؤسسات المعادية بطبيعتها للدولة… فهو يبدأ بنفاقها والتودد إليها والخضوع لإرادتها، فإذا ما أحس بالخطر وحاول الاعتراض ارتدت على أشخاص الحاكمين تتهمهم فيدينهم ، وعلى “الدولة” كمؤسسة تتهمها بالافتقار إلى روح العدالة والمساواة والتوازن!
ولو أن البينات تقصر اهتمامها على المماحكات المحلية والمساجلات بين “التيارات” – إن وجدت – لهان الأمر، ولظل العلاج ممكناً، أو بالأحرى لظل الضرر محدوداً،
أما وأن هذه البيانات تتعرض أحياناً للمقدس من القضايا، وتبدي آراء مختلفاً عليها في مسائل حساسة لا تتحمل الاختلاف العلني، كمثل المفاوضات مع العدو الإسرائيلي، فذلك أمر لا يمكن السكوت عليه، لأن الانحراف يمكن دائماً أن يغطي نفسه بالجلباب الطائفي،
وإنه لأمر مثير للاستغراب، مثلاً، أن يصدر بيان لبعض تلك المجالس، أمس أو اليوم أو غداً، متضمناً الادعاء بأن “المفاوضات الجارية تبشر بالأمل بأن تؤدي إلى النتيجة المرجوة”،
أية مفاوضات هي تلك التي يتحدث عنها، مثلاً، بيان مجلس المطارنة الصادر أمس؟!
وأين ترى أصحاب السماحة وجدوا ما يبشر في الأمل؟!
هل في فلسطين المحتلة التي تكاد قيادتها تضيع ما تبقى منها بينما العدو الإسرائيلي يبتزها كل ساعة المزيد من التنازلات ويلغم الأرض في الضفة الغربية وغزة لكي تكون جاهزة للتفجر مع انسحابه منها، كما حصل في بعض أنحاء جبل لبنان ومنطقة شرقي صيدا في صيف 1983 ثم في ربيع 1985 على التوالي؟!
أم في الجنوب الذي تدك الطائرات والمدافع الإسرائيلية مدنه وقراه كل يوم، فتقتل نساءه وأطفاله وتلامذة المدارس والشيوخ، بينما هي ترفض الشروع في مفاوضات جدية مع لبنان الرسمي – حتى الآن – ، كما أنها ترفض التعهد بالانسحاب مما تحتل من أرضه، بل إنها لا تعترف حتى أنها محتلة!!
للمناسبة: فإن اللهجة التي كتبت بها الفقرة عن الجنوب لافتة في برودتها وحيدتها المستهجنة، بينما الفقرات الأخرى التي تتحدث عن الإعلام المسموع والمرئي، مثلاً، أو عن “المداهمات والتعقبات” كانت تحرق الأيدي بحرارتها الشديدة.
إن الحرية نعمة،
ولكن الحوار لا يستوي بين من هو محصن بعصمة الطائفة وبين من هو أعزل لمجرد أنه “مدني” لا يملك غير رأيه واجتهاده وإيمانه بالله وبأرضه وبحقه في دولة وبحقوقه فيها كمواطن، بل كإنسان.
ولأن الحكومة أعجز من أن تواجه ستظل الدولة تدفع الثمن من هيبتها ودورها ومن حقوق مواطنها المضطهد في الحالين!