يصل وزير الخارجية السوفياتي ألكسندر بسمرتنيخ إلى المنطقة في اللحظة المناسبة تماماً، فأهلها يفعلون مثل ما يفعل أهله: يحاولون إعادة اكتشاف الذات والدور والموقع على الخريطة الجديدة لهذا الكون المتغير.
والحال من بعضه.. فالمواقف المبدئية لا تتطابق بأي حال مع السياسة الواقعية المعتمدة، والنوايا الطيبة تنقصها الإمكانات، والرغبة بالمحافظة على “حق المشاركة في القرار” تعوزها القدرة على انتزاع اعتراف الأطراف الأخرى، بالذات “الأقوى”، وهذا “الأقوى” يحرص على تهميش أعداء الأمس و”المتمردين” ولكن من دون إلغائهم تماماً، إذ بواسطة الشريط الضعيف أو “الحليف الثانوي بل الشكلي” يكتسب القرار المنفرد للأقوى “شرعيته” الدولية.
ومؤكد أن السوفياتي الحريص على تأكيد دعمه الثابت والمستمر لقضايا النضال العربي، وفلسطين منها في الطليعة، مع منظمة التحرير وليس من دونها، لن يستطيع إخفاء فجيعته لموقف بعض الأصدقاء القدامى مما جرى في بلاده، وكيف “باعت” التاريخ الغني والمكلف من العلاقات المشتركة عند أول باب موارب انفتح إلى واشنطن.
على أن الموفد السوفياتي الرفيع المستوى لن يفاجأ ببعض هؤلاء الأصدقاء القدامى يعاتبونه بمنطق المفجوع بما جرى للاتحاد السوفياتي العظيم ومعسكره الاشتراكي وفيه، بل لعلهم سيلقون بأثقالهم على كتفيه المنهكتين بعبء التحولات التي اعتبرت زوراً أو حقاً كنتائج مباشرة لبيريسترويكا غورباتشوف.
ولعل بين هؤلاء من يحق له تبرير التحول في موقفه، والسعي إلى استدراك علاقة مع واشنطن، بكون قيادة “الثورة الجديدة” في الاتحاد السوفياتي القديم قد أسقطت أو تكاد كل فاصل كان قائماً بينها وبين “زعيمة الإمبريالية العالمية”.
على أن الاستكشاف الأهم سيكون في تل أبيب ليس فقط لأن بسمرتنيخ هو الأول بين القياديين السوفيات يزور الكيان الصهيوني منذ إقامته في العام 1947، بل لأنه سيد في الدولة العبرية التعبير الفج عن سياسة الغالب التي تمارسها مبطنة وبدبلوماسية ماكرة الولايات المتحدة الأميركية.
ومقدر على السوفيات أن يتحمل صلف الإسرائيلي وشعوره بالاستقواء وتوغله في سياسة لي الذراع والابتزاز، مستذكراً أن بعض السبب في هذا الموقف غير الكريم هو الخذلان الذي جاءه عن طريق الأصدقاء العرب، فمرة يكون السبب نتيجة، ومرة أخرى تكون النتيجة سبباً ومصدراً لنتائج أخرى، والدائرة مغلقة…
على أن الآتي هو الأعظم،
فإذا كانت “إسرائيل الأولى” قد قامت قبل خمس وأربعين سنة بمعونة ذراعين قويين: غربي (أميركي وإن كانت الواجهة إنكليزية) وسوفياتي، فإن مشروع “إسرائيل الثانية” أو “إسرائيل الكبرى” مرشح لأن يكون – بشكل أو بآخر – ثمرة التعاون (ولون موقع التنافس) بين العاصمتين والعقيدتين والسياستين المتباعدتين.
وكما كان الغياب العربي، بالأمس، بداعي الضعف وانعدام التأثير ومحدودية المقاومة، هو السبب المباشر لاندفاع “المجتمع الدولي” نحو تثبيت شرعية الكيان الصهيوني الخارج من رحم الانتداب البريطاني بالتمويل الأميركي والمدد البشري الآتي من عند السوفيات (ومنظومتهم الاشتراكية)…
… فإن الغياب العربي اليوم وللدواعي نفسها وقد فاقمتها الهزائم وآخرها وأخطرها تلك التي نتجت عن المغامرة – الكارثة التي قادها صدام حسين، سيكون بين أسباب اتفاق الإذعان (هذه المرة) بين الأميركيين الأقوياء وبين منافسيهم السوفيات الضعفاء حول “إسرائيل الجديدة”…
إن إسرائيل تتمدد و”العرب” ينحسرون.
والولايات المتحدة تتمدد والسوفيات ينحسرون،
ولعل العرب والإسرائيليين يتلاقون اليوم على ضرورة عودة السوفيات إلى المنطقة، وإلى الصراع العربي – الإسرائيلي ولو من مدخل جديد وبدور جديد،
فالعداء المضمر أو المعلن، المتبادل أو الذي من طرف واحد ، يخلي المكان لمشاريع التسوية الممكنة إلى حد الاستحالة، أو المستحيلة إلى حد إمكان تنفيذها.
وإذا كانت المطالب الإسرائيلية من السوفيات بلا حدود فلعل أقصى ما يطلبه عربي من “رفاق السلاح القدامى” أن يحدوا من هجرة “يهودهم” ليكونوا ورثة مسلحين لمن لم يمت بعد من الأصدقاء العرب.
أما المطلب المضمر فهو هو لدى الطرفين: عودوا كما كنتم فنعود كما كنا، أو كما تحبون أن نكون،
لكن الأكثرية في الجهتين لا تريد أن تعود إلى حيث كانت وإلى ما كانت عليه.
أليس كذلك أيها الرفاق؟!