مهينة هي المقارنات التي يفرضها عليك عصر الهزيمة العربية وملوك الطوائف، والجراح التي تتركها في النفس والوجدان أن لا طبيب يعنى بها ولا أمل بشفاء منها، وبينها على سبيل المثال لا الحصر:
1 – إن إسرائيل البلا حكومة، والتي تبدو قواها السياسية في مظهر انقسام حاد واختلاف على أمور جوهرية، تظل أقوى من مجموع الدول العربية المتنادية الآن إلى قمة تكاد تبدو بلا موضوع وبلا تأثير جدي على سياق الأحداث برغم الحشد اللجب من أصحاب الألقاب الفخمة فيها.
2 – إن إسرائيل هذه قادرة، برغم كل انقساماتها، على التحكم في المصير العربي العام، وفي مصير كل قطر عربي آخر كل على حدة.
وإذا كان العراق هو المهدد الآن، ومن حقه أن يطالب أشقاءه العرب بالوقوف معه، فلقد كان شرط هذه المطالبة – ومع تجاوز الماضي – أن يتصرف نظامه وكأنه حريص على المستقبل، مستقبل كل قطر عربي ومستقبل العرب عموماً.
لقد تجاوز الإسرائيليون انقساماتهم السياسية في مواجهة العرب، وفي مواجهة العالم بأسره. ظلوا “إسرائيليين”، وأبقوا لإسرائيل صورة واحدة بمطالب واحدة ومطامح واحدة ومطامع واحدة وأهداف استراتيجية واحدة حتى وهي تفتقد الحكومة الواحدة، فإسرائيل واحدة بحكومة وبلا حكومة…
أما العرب فحكوماتهم أهم من دولهم، ودولهم – حتى لو كانت كياناتها كرتونية ومصطنعة – أهم من أمتهم، و”الحاكم” أهم من هؤلاء جميعاً… حتى لو كان بلا أرض ولا دولة إلا على الورق!
3 – لقد انتهى حكام العرب، بأكثريتهم الساحقة، اتباعاً للولايات المتحدة الأميركية… لكن كلا منهم ذهب إلى واشنطن بمفرده، وحرص على أن يبيعها ولاءه لوحده، وعلى أن يشتري منها ضمان مستقبله الشخصي مقدماً كرهن أو تأمين أرض بلاده ومستقبل شعبه وحلم أمته بالوحدة.
وهكذا ظلت إسرائيل “الصغيرة” أقوى في الولايات المتحدة وعليها من كل “حاكم” عربي على حدة، ومن مجموع الحكام العرب، وبالتالي من مجموع الأمة كما “تتجسد” عبر حكامها الصناديد!
4 – ليس في “إسرائيل” نفط ولا غاز،
ولا يعد “شعب إسرائيل” بعشرات الملايين،
ولا تملك إسرائيل من الموارد ما يقيم أود “شعبها”، بل هي تعيش على المساعدات والهبات و”الجزية” التي تفرضها على العالم كله، بشرقه وغربه، والتي يسهم العرب – مباشرة أو غير مباشرة – بنسبة عالية منها،
ولا تتحكم إسرائيل بالمنافذ والمضائق والمواقع الاستراتيجية، من قناة السويس إلى خليج العقبة إلى باب المندب والبحر الأحمر بكامله إضافة إلى معظم البحر الأبيض المتوسط،
ولا تتبع الإذاعة والتلفزة والصحف الإسرائيلية أسماء الحاكمين فيها بتعابير من نوع “المفدى” و”حفظه الله”، ولا تسبغ على أصحابها ألقاب القداسة التي تدخل فيها إمارة المؤمنين وخدمة الحرمين وإلهام القيادة المعلمة، ولا تنسب هؤلاء – تملقاً – إلى العثرة النبوية الشريفة،
ولا يحكم إسرائيل من “يمنح” نفسه بعض أسماء الله الحسنى ويعطي نفسه من الحقوق على الناس ما يتجاوز الصفات والقدرات الإنسانية، بل يتبدل حكام إسرائيل دورياً، حتى وإن كانوا “منتصرين”، بينما تطيل الهزائم في اعمار حكام العرب وحكوماتهم (ومجالسهم النيابية) الأبدية السرمدية!
5 – إن عرب أميركا هم أضعف أهل الدنيا وأتفه الأميركان، هذا إذا ما احتسبوا بين الأميركان… يعطون ولا يأخذون، ويهانون فلا يعترضون، ويؤمرون فينفذون كما العبيد…
أما إسرائيل “الأميركية” فهي أقوى من الولايات المتحدة الأميركية مجتمعة،
وإسرائيل “الغربية” أقوى من الغرب مجتمعاً.
هي تأخذ ولا تعطي بل تطلب المزيد وكأنها ولية الأمر والباقي من أتباعها وليس عليهم إلا أن يصدعوا لإرادتها.
وهي تهين “الدول” الكبرى وتتحداها، تفرض عليها الاعتذار فتعتذر، والتكفير عن الماضي فتدفع بغير حساب من ثروتها ومن كرامتها، وتقرر فلا يجرؤ أحد على الاعتراض أو حتى على المناقشة!
.. لكأنما إسرائيل تستقوي على العالم – في جملة ما تستقوي به – بالعرب وثرواتهم واحتياطيهم من النفط والغاز والودائع في المصارف الغربية، من دون أن ننسى العضاريط من حكامهم!
6 – إن العرب في قممهم أضعف منهم وهم متفرقون في “القاع”، إنهم لا يجيئون إلى قمة إلا لكي يجنبوا أنفسهم هزيمة جديدة محتملة، فيدفعون الفدية صاغرين من دون قتال، وحتى تكفيهم واشنطن شر القتال.. فتأخذ واشنطن لنفسها ولإسرائيل أقصى ما تطمعان فيه، ثم تطلب المزيد، ولا مزيد!
على إن لقمة بغداد فوائد جمة، وبالأخص لبنانياً.
فهي – أولاً – قد منحت “الشرقية” هدنة كانت في مستوى الحلم، وأعادت توحيد الموقف بين الخارجين على السلطة الشرعية ووحدة البلاد،
وهي – ثانياً – نقلت أو هي على وشط أن تنقل كرة النار إلى “الغربية”،
وهي – ثالثاً – قد هزت مصداقية الشرعية المنبثقة عن اتفاق الطائف، إذ لم يتكرم لا المضيف ولا المسوق أو المروج أو الداعية بتوجيه دعوة رسمية إلى رئيس الجمهورية أو الحكومة،
وهي – رابعاً – قد مهدت لعودة السلاح الفلسطيني كعنصر فاعل في الحرب الأهلية.. فـ “الفلسطيني” في “الشرقية” وسيط ولكنه في “الغربية” شريط مضارب!!
وقمة بغداد شكلت الترخيص العربي لعودته إلى ساحة الحرب بدل أن يكون بين همومها وقف الحرب الأهلية في لبنان وتأجيج الثورة القومية في فلسطين وسائر الأرض المحتلة،
وهي – خامساً – قد أوقعت اللجنة العربية العليا (بملكيها والرئيس الجزائري) في حرج شديد، إذ تحاول جرها إلى التصادم المباشر مع سوريا (والشرعية في لبنان) بذريعة محاولة اكتساب تأييد النظام العراقي وقيادة منظمة التحرير لاتفاق الطائف ومفاعيله السياسية العتيدة!
أما على الصعيد الفلسطيني ففوائد قمة بغداد، كما تبشر النذر، أخطر وأدهى، إذ تبدو وكأنها ستكون رصاصة الرحمة على القضية، وذلك ما قصرت عنه القمة الاستثنائية الأخرى في الدار البيضاء.
وللحديث بقية.. فخير القمة عميم، وأول الغيث قطر ثم ينهمر!
ونهاية القمة “حزيرانية”،
وعصر 5 حزيران لما يكتمل فصولاً!