طرح الرئيس سليم الحص في مقالته المنشورة في “السفير” يوم أمس، قضية في غاية الأهمية عنوانها: ما هي قضية المعارضة للتسوية؟!
وبين أخطر ما قاله الرئيس الحص في مقالته هذه أن العرب يظهرون الآن، ومن دون الفلسطينيين، وكأنهم بلا قضية، نظراً لأن “قضيتهم” فلسطين كانت محور الصراع العربي – الإسرائيلي وبالتالي جوهر القضية العربية.
والحقيقة أن العرب، أقله في ربع القرن الأخير، قد لخصوا قضيتهم وركزوها في فلسطين: تحريرها هو تحرير الأمة، الحرب – إن وقعت – فمن أجلها، والسلام – لو أمكن تحقيقه – فباسمها ومن أجل حق أهلها فيها، والعلاقات مع “الخارج” تتحدد في ضوء موقفه منها.
لكن الحقيقة أن فلسطين كانت العنوان ولم تكن الموضوع، ولقد انشغل العرب، بالعنوان حتى تناسوا الموضوع الأصلي وهو: الصراع العربي – الصهيوني، صراع حركتين عقائديتين إحداهما تغلب مشروعها السياسي على مشروعها الديني، هي حركة القومية العربية، والثانية تعطي الأولوية المطلقة لمشروعها الديني بعد تضمينه مشروعها السياسي، والعكس بالعكس، وهي الحركة الصهيونية.
وصحيح ما ذهب إليه الرئيس سليم الحص من أن العرب بحاجة إلى إعادة صوغ قضيتهم القومية، لأن اتفاق غزة – أريحا قد زعزع قواعد اليقين، لكن الصحيح أيضاً أن تلك الحاجة كانت قائمة قبل هذا الاتفاق البائس، بل لعل الاتفاق نفسه ما كان يمكن أن يتم لو أن العرب أعادوا صوغ قضيتهم القومية قبل إنجازه الكرنفالي في البيت الأبيض الأميركي في واشنطن.
إن أهم التبريرات التي تعطى لتمرير هذا الاتفاق إنه الاتفاق اليتيم المعروف، فلا بديل منه ولا عوض منه غير الاحتكام إلى التاريخ وانتظار حتميته بينما الأرض تتناقص مساحتها مع كل مطلع شمس والناس تنفض عن القضية، وحتى عن السياسة والشأن العام برمته على مدار الساعة.
لكن الخطأ يبدأ في اعتبار فلسطين هي القضية.
ولعل تزوير مقصود أكثر منه خطأ عفوياً أو نتيجة التباس.
فقضية العرب القومية هي إسرائيل لا فلسطين، وهي الحركة الصهيونية ومشروعها الإمبراطوري (الاستعماري – الاستيطاني) وليست مطامح “حركة فتح” أو سائر المنظمات الداعية إلى تحرير فلسطين بذاتها.
في التاريخ الحديث، يتعلم العرب على مقاعد الدراسة أن حركة وعيهم بذاتهم ونهضتهم من أجل تحررهم من الاحتلال العثماني ثم الغربي، قد بدأت برفع شعار الوحدة، والدولة المركزية الجامعة لإصقاعهم المشتتة ولايات وسناجق ومتصرفية في جبل لبنان، وذلك سنة 1915، وغداة انفجار الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية.
كانت فلسطين حتى بعد صدور وعد بلفور، الذي “منح فيه من لا يملك من لا يستحق”، مجرد بند في لائحة طويلة من المطالب والمطامح القومية، وكانت الوحدة ودولتها العتيدة العلاج السحري لمجموع المشكلات التي ورثها العرب عن عصور الأظلام والقهر والاستعماري بشقيه: الإسلامي – العثماني، ثم الغربي – الصليبي،
كانت المشكلة مع “الغرب المسيحي” بعد “الشرق المسلم” ولم تكن مع “الأممية اليهودية” التي تسلحت بالموروث التاليخي المقدس كي تستدرج “الغرب” لأن يخوض معركتها مع “الشرق” في ظل شعارات ظاهرها سياسي وباطنها ديني توراتي أو العكس،
أما اليوم فهي مشكلة العرب الذين إن خرجت منهم فلسطين غدوا بلا قضية.
ولا شك أن العرب الذين “اخترعوا” فلسطين، أو لخصوا فيها مشكلتهم مع الغرب المسيحي – اليهودي، غارقون الآن في “البحر” الذي “اخترعوه” مع وعيهم بأنهم لا يعرفون السباحة.
والحقيقة أن فلسطين كانت العنوان الذي “اختاره” العرب لقضيتهم بل لصراعهم مع الغرب حول حقهم في أرضهم وفي تقرير مصيرهم فوقها، أكثر مما كانت هي بذاتها القضية.
كان الموضوع هو الصراع مع الحركة الصهيونية الحاملة مشروعاً مضاداً للحركة القومية العربية، والمعززة بالدعم الغربي غير المحدود والمستند إلى خلفية من العداء تمتد قروناً قد تتجاوز الحروب الصليبية إلى ظهور الإسلام وقيام دولته على أنقاض إمبراطورية الروم (الغربية) وإمبراطورية فارس (الشرقية).
وها هم العرب يدفعون الآن ثمن التحريف أو التزوير في طبيعة قضيتهم.
كانت قضيتهم حقهم في أرضهم عموماً، وفلسطين هي جزء بسيط منها، وحقهم في الحرية والاستقلال، والأهم: حقهم في الوحدة القومية.
لكنهم لأمر ما، أو لخطأ ما، دمجوا الأهداف والأحلام جميعاً في فلسطين، بدل أن يظل العنوان الصريح للصراع هو هو: الصراع بين حركتين عقائديتين إحداهما شرعية ونبت طبيعي للأرض وأهلها، أي الحركة القومية العربية، والثانية وافدة وليست ذات جذور بل تستند إلى مزيج من الخرافة والأسطورة والموروث الديني الذي تجاوز الماضي إلى المستقبل.
صارت فلسطين هي ملخص الأمة، وما هي بالأمة،
وتم تجاهل العدو الحقيقي وهو الحركة الصهيونية ومشروعها السياسي للمنطقة العربية برمتها.
وهذا سهّل على الحركة الصهيونية حركتها في حين أنه خلق مجموعة من التناقضات والتعقيدات للحركة القومية العربية بات ضرورياً معها التضحية بأهداف عزيزة من أجل عروبة فلسطين.
صارت عروبة فلسطين هي العروبة وما عداها باطل الأباطيل،
وهكذا لما ذهبت عروبة فلسطين وجد العرب نفسهم بلا عروبة أي بلا قضية.
صارت النتيجة سبباً، وصار الجزء مصدراً للكل.
ولا بد من تصحيح جذري لأساس الموضوع حتى تصح المسيرة: فالقضية هي عروبة العرب والوطن العربي، وضمنه فلسطين. فالعرب يستعيدون فلسطين متى تحرروا، لكن فلسطين لا تستطيع تعريب العرب إذا تهجنوا.
والخطوة الأولى أن يتعرب العرب.
ولعل تلك هي قضية اليوم، وبعد ذلك يمكن النظر في ما بعدها.
ولو أن العرب “عرب” لما ضاعت فلسطين وتقزمت في أريحا، ولما تقزم العرب في فلسطين، على قداستها.. ولكانوا الآن في خضم الصراع بدل أن يكونوا متنافسين على مرتبة البطولة في الخروج من جلدهم إلى صقيع النظام العالمي الجديد.
وهذا النظام أميركي في أربع رياح الكون، أما في المنطقة العربية فهو إسرائيلي حتى لو رطن دعاته بالإنكليزية المدموغة بلكنة الكاوبوي!