رائع أن يهب شعبنا في الجنوب ليؤكد موقفاً مبدئياً ثابتاً وقاطعاً من الاحتلال الإسرائيلي، وأن يرفع صوته معلناً حضوره ووعيه لدوره ولمهماته الجليلة في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة من تاريخنا، برغم إن المناخ السائد في البلاد يدفع بالناس دفعاً نحو التقوقع والانكفاء من الشارع إلى جحور الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية، على حساب ما هو وطني وقومي ونافع للناس في حاضرهم وفي مستقبلهم.
ومع إننا كنا نتمنى لو كانت للمسيرة الحاشدة في صور وللإضراب العام في معظم أنحاء جبل عامل الامتداد الوطني الضروري في بيروت وصيدا وطرابلس وبعلبك، وايضاً في جونيه وجبيل وإهدن وعكار ناهيك بعاليه وبعقلين وحاصبيا والبقاع الغربي وإقليم الخروب، فإن انحصار التحرك جغرافياً وشحوب شعاره السياسي المعلن وانفراد جهة سياسية واحدة بالدعوة إليه، كل ذلك لا يجوز أن يقلل من أهمية هذا التحرك أو يطمس الشعارات أو الدلالات الكامنة والمضمرة فيه.
ومع التسليم بأهمية تأمين السلامة لقوات الطوارئ الدولية و”هم أمانة في أعناقنا وضيوف عندنا فحرام التعرض لهم والإساءة إليهم، لأنهم عيون العالم التي تكشف ممارسات قوات الاحتلال، بالإضافة إلى أنهم البرهان العالمي على أن أرض الجنوب محتلة من قبل إسرائيل”، كما قال الشيخ عبر الأمير قبلان، فإن التحرك الشعبي الواسع الذي شهده الجنوب، أمس، يتجاوز في معانيه هذا الأمر ليلامس جوهر الأزمة التي يعيشها لبنان وسط خضم العواصف التي تجتاح المنطقة الآن.
ولعل هذه الحقيقة هي التي تفسح في المجال أمام سيل من التفسيرات والتأويلات والاستنتاجات لمسيرة صور الحاشدة، بعضها بريء وبعضها ساذج وبعضها مريب بل ومشبوه.
*فالمسيرة كما فهمها الذين اندفعوا إلى المشاركة فيها تنطلق أساساً من أرضية العداء المطلق للاحتلال الإسرائيلي، وتندرج في السياق الطبيعي للمقاومة (الوطنية، القومية، الإسلامية) الشرعية والمشروعة والواجبة لهذا الاحتلال بأشكاله وأدواته كافة، وحيثما كان.
*والمسيرة، كما فهمها المشاركون فيها، تحصين للجنوب في وجه خطر جدي داهم يتمثل في احتمال توسع الاحتلال، وهو هاجس يحرم الجنوبي النوم، خصوصاً وهو يفتقد النصير الجدي والفعال في ظل التردي العام داخل الوطن الصغير كما على امتداد الوطن الكبير.
فالجنوبي ينظر إلى الجنود ذوي القبعات الزرق وكأنهم إحدى الضمانات القليلة المتاحة لمنع احتياجات إسرائيلية أخرى، فإذا تعذر فلمنع تثبيت الاحتلال ودوامه بما يلغي الهوية إضافة إلى السيادة والاستقلال والعزة والكرامة الخ…
فوجودهم اعتراف دولي بأن أرضه لبنانية (وبالتالي عربية) وبأن الجنوب جزء من الوطن اللبناني (العربي بالضرورة)، وإذا كانوا قد جاءوا لتأمين جانبي الحدود فما يعنيه إنهم يؤمنونه هو الضعيف بينما إسرائيل القوية والمستقوية بتردي الأوضاع في لبنان وفي الوطن العربي الكبير كما بالدعم الأميركي – الغربي الهائل تطالب قوات السلام هذه بالخروج وتزيد من مضايقاتها لها ولا تني تحرجها حتى تخرجها.
*والمسيرة شاركت فيها، بطبيعة الحال، تلك الحشود إياها التي قاومت الاحتلال بالاعتصامات والاضرابات، بالعصي والحجارة، والزيت المغلي، بالدم القاني واللحم الحي، ثم بالسلاح عندما توفر السلاح، بالعمليات الاستشهادية كما بالاغارات شبه اليومية على مواقع العدو وأتباعه حيثما أمكن تصيدهم.
*والمسيرة – السابقة، إذ هي أول تظاهرة شعبية لتأييد قرار دولي في حين جرت العادة على تجييش مسيرات وتظاهرات ضد القرارات الدولية، هي إعلان مدو عن رفض الصفقات المنفردة والمفاوضات المباشرة أو الاعتراف أو الصلح مع العدو.
لكن الخطر كل الخطر أن يقرأ الآخرون دلالات هذه المسيرة خطأ فيفهمون منها العكس ويتصرفون على هذا الأساس، فيعتمدون سياسة من شأنها أن تدفع الجنوبيين دفعاً إلى موقع أو موقف يرفضون قطعاً بل يقاتلون حتى لا يكونوا فيه.
فالحرص على الجنوب وتحصينه ليس تفريطاً بالقدس، ذلك إن المفرط بالقدس لا يقاتل في مكان آخر، والمقاتل ضد إسرائيل بوصفها العدو لن يصالحها بدافع النكاية بالمزايدين أو بتأثير المرارة واليأس من المتخلين والمتخاذلين والمناقصين.
*وبهذا المعنى فليس إضراب الأمس، وفي وجهته الفعلية، تأييداً لقوات الطوارئ كدول وجنسيات، بل لمهمة تتقاطع مع مطامحه في تحرير أرضه.
إنها ليست مسيرة تأييد لفرنسا، مثلاً، بما هي سياسة تجاه لبنان والعرب والمسلمين عموماً، وليست موجهة بالتالي ضد الذين يناهضون السياسة الفرنسية أو يعترضون عليها، وليس هذا بين هموم المشاركين في مسيرة الخائفين من أن يستفردهم العدو الإسرائيلي فيفرض احتلاله عليهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
*والمسيرة تقول بالفم الملآن: نقاتل الاحتلال في أرضنا بقوة إيماننا وبجهدنا وبتأييد المناضلين الشرفاء المستعدين لمد يد المساعدة، ومستعدون لقتاله خارج أرضنا أيضاً ولكن مع المستعدين لقتاله من أخوتنا وأنصارنا والمؤمنين بعدالة قضيتنا أينما وجدوا… فلسنا نريد من أحد أن يقاتل بالنيابة عنا، وأهلاً به إذا جاء معنا، ولن نخطئ فنعطي أنفسنا حق النيابة عن الآخرين في دورهم الأصيل والذي لا غنى عنه ولا بديل له، ونعرف ويعرفون إن مكاننا محفوظ معهم حين يقاتلون.
*والمسيرة لم تنطلق، كما يريد البعض أن يصورها، لتأييد الترتيبات الأمنية وتأمين “الحدود الشمالية” للعدو الإسرائيلي، ولكنا انطلقت لتأمين الحدود الجنوبية للأراضي اللبنانية.
فهي ليست مسيرة من أجل الصلح مع العدو، ولكنها مسيرة من أجل مصالحة مع الذات يتم عبرها التفريق نهائياً بين العدو وحلفائه وبين المجتمع الدولي عموماً الذي انتدب – ضمن ظروف محددة – هذه القوات لمهمة محددة ومعروفة ومقبولة سلفاً بل لقد طالب بها وطلبها أصحاب العلاقة أنفسهم.
ومؤكد إن الكل كان يتمنى لو أن مسيرة الأمس في صور كانت واضحة في شعاراتها وضوح مسيرة أمس الأول في بيروت ضد لقاء مبارك – بيريز في الإسكندرية، كما إن الكل كان يتمنى لو كانت مسيرة بيروت حاشدة كمسيرة صور، لكن ذلك لا يلغي أن بينها صلة رحم فكلاهما ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الصلح مع العدو الإسرائيلي وضد المعترفين به والمتلاقين معه في المشرق كما في المغرب.
*ويبقى أخيراً أن نشير إلى دلالة غاية في الأهمية من دلالات تحرك الجنوب أمس، وهي: الطاقة التوحيدية الكامنة لدى الشعب في لبنان. صحيح إن الإضراب شمل منطقة دون المناطق الأخرى، وإذا شئت طائفة دون الطوائف الأخرى، إلا أنه استفتاء لمنطقة كما لطائفة حول شعار الدفاع عن الوطن وسلامة أراضيه. فالتمسك “بالطوارئ” يعكس التمسك بوحدة البلاد في نقطتها الأكثر تعبيرية، وطنياً وقومياً، أي عند الحدود مع الكيان الصهيوني.
ويفيد درس صور إن المناطق الآخرى، كما الطوائف الآخرى، لو أتيحت لها استفتاءات مماثلة لنزلت إلى الشارع كما نزل الجنوبيون أمس، ليس بالضرورة حول القرار 425 الذي يمس مسألة السيادة بالنسبة للجنوبيين بصورة خاصة، ولكن حول أي شعار يحمل المعنى الجوهري أياه، “ويعني” مباشرة المنطقة التي يمكن أن يتاح فيها مثل هذا الاستفتاء.
كذلك فدرس صور هو موقف قاطع في وضوحه ضد الحرب الأهلية، وتفسخ الدولة الواحدة، وتفسخ الشعب الواحد إلى طوائف ومذاهب وعشائر متناحرة، وهو – بالتالي – موقف يرفض التدخل الإسرائيلي في الشؤون اللبنانية، استناداً إلى الإرادة الدولية المعتدلة، ممثلة في الأمم المتحدة، ودعمها المعنوي والعملي للدول الضعيفة والصغيرة ومنع العدوان عليها والتلاعب بأوضاعها الداخلية.
ويبقى الخطر أن يخطئ البعض قراءة دلالات تحرك الجنوب،
والخطر قائم على الجانبين: في صفوف الداعين إلى التحرك والمشاركين فيه كما في صفوف المعترضين عليه والمقاطعين،
والمهم أن نحسن توظيف هذا التحرك وفي موقعه الصحيح، حتى لو اختلفنا في الاجتهاد… فالوطن واحد والعدو واحد، وكلنا على قائمة الضحايا والشهداء.