… وبقدر ما يراد للطريق بين “خلده” و”الخالصة” التي صارت بالقهر – “كريات شمونه” أن تصبح سالكة وعلى الخطين بحيث تسمح بتنقل الأشخاص والبضائع “بحرية”، يراد للطريق بين خلده اللبنانية وحمص السورية – (أو حماه أو حلب ناهيك بدمشق) أن تقفل في طرابلس بالذات التي صارت – بالرضى والتراضي – لبنانية وتحت شعار الحفاظ على جوهر الأخوة بين البلدين التوأمين.
وإذا كان حاجز البربارة الشهير علامة من علامات التقسيم الداخلي فإن حاجز باب التبانة – بعل محسن ليس إلا علامة، يراد بها تأكيد انفصال كل من لبنان وسوريا عن عروبتهما، وابتعاد كل منهما عن نفسه وعن هويته بما يترك مساحة واسعة ممهدة ومهيأة لكي يملأها العدو الإسرائيليز
فلقد تجاوز الأمر في طرابلس حد الخطأ إلى الخطيئة فالمؤامرة على لبنان واللبنانيين وسوريا والسوريين، ومن عجب إن الأطراف الأساسية تتورط أكثر فأكثر مع وعيها الكامل بأن ذلك يخدم المؤامرة ويحقق أهدافها كاملة!
إن الكل يلحس المبرد بتلذذ نادر، وطرابلس تذوي وتضمحل كقوة تأثير وطنية رئيسية، في اللحظة التي يحتاج فيها لبنان – دولة ومصيراً ومشروع وطن – أي جهد مدخر أو مستبق لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومخططاته المعلنة.
ولقد آن أن يقال بصراحة، ونفترض أن الرئيس رشيد كرامي قالها للرئيس حافظ الأسد حين استقبله مساء أمس، إن ما يجري في طرابلس محاولة إنهاء لإحدى أهم القلاع الوطنية في لبنان، وإن سوريا وعلاقات سوريا بلبنان عموماً وبطرابلس والشمال خصوصاً هي التي تستنزف وتنقلب إلى ضدها تماماً.
وأمام شلال الدم المنهال منذ شهور طويلة، لم يعد ممكناً أن يتوقف الإنسان ليسأل عن حقيقة ارتباطات هذا “القبضاي” أو هذا التنظيم المحلي أو ذاك، بل إن الجميع سيتوجهون حتماً بالسؤال إلى دمشق وليس إلا إلى دمشق.
فدمشق مسؤولة بقدر ما هي معنية، ومعنية بقدر ما هي موجودة، وأيضاً بقدر ما هي مطالبة بالحفاظ على طرابلس والطرابلسيين، ومن ثم بتصليب الموقف اللبناني في مواجهة الاحتلال الإسرائيليز
وإذا غفل الجميع فليس من حق دمشق أن تغفل عن حقيقة التوافق والتزامن المريب. بين انفجار أو تفجير الوضع في طرابلس، وبين تحول الأطماع الإسرائيلية، في لبنان – وما بعده – من نوايا ومخططات إلى احتلال حقيقي، وإلى مفاوضات مباشرة، تستهدف الوصول إلى معاهدة تطبيع هي في حد ذاتها الاندفاعة الثانية الكبرى على طريق المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي.
ولن يقبل أحد منطقاً يقول: إن سوريا (بكل ما تعنيه) مشغولة في طرابلس بمواجهة خصوم حكمها بينما عدوها (هي كسوريا) وعدو لبنان القومي، الأصلي والأساسي، يغطي بجيشه كل الجنوب والجبل ويهيمن على العاصمة والطرق إلى طرابلس و… ودمشق بالذات!
لقد بات واجباً قومياً أن تتوقف المذبحة في طرابلس بأي ثمن،
وماذا يمكن أن تكون هناك من واجبات تفوق أو تتقدم على واجب التصدي للاحتلال الإسرائيلي، وإنقاذ لبنان من براثنه الممتدة – بعد – إلى ما يجاوزره.
وليس مسموحاً ولا مقبولاً، بأي حال، أن يقال ذات يوم إن معاهدة التطبيع اللبنانية – الإسرائيلية قد مررت بسبب الفتنة في الجبل أو الاقتتال غير المفهوم وغير المبرر في طرابلس.
وإذا كانت تطورات الأحداث في الجبل قد جعلت القتال هناك يتخذ أكثر فأكثر طابعاً له مردوده الوطني فإن ما حصل في طرابلس قد بدأ يتحول أكثر فأكثر إلى مسألة غير مفهومة ومردودها النهائي غير وطني وبالتالي غير قومي.
وإذا كانت الدولة، والدولة وحدها هي المسؤولة والمطالبة بوقف القتال في الجبل، عبر تأكيد وجودها كدولة لجميع اللبنانيين بغض النظر عن الطوائف والأحزاب والمذاهب والأهواء وطموحات المستعجلين ، فإن سوريا وسوريا أساساً هي المسؤولة والمطالبة بوقف الاقتتال في طرابلس عبر تأكيد وجودها كقوة ردع وكشقيق أكبر لا يصرفه عن واجبه هوى ولا يسقط في فخ المتآمرين، سواء أكان سلاحهم الاستفزاز واستثارة الغرائز الطائفية أو مصالح بعض الأفراد أو بعض المنتفعين بتجارة الدم.
وبصراحة: فبعل محسن ليس سوريا، بل هو حي من أحياء طرابلس ليس إلا، والتبانة ليست إلا بعض طرابلس التي كافحت نفسها حتى ارتضت الهوية اللبنانية بديلاً عن الهوية السورية حرصاً على عروبة الشقيقين التوأمين.
ولقد آن أن يتدخل الرئيس الأسد ويضع ثقله الشخصي وثقل سوريا من أجل أن يلزم لبنان بالتفرغ لمهمة اجلاء العدو الإسرائيلي.
ومدخل الالزام أن لا تكون للحكم في لبنان ذريعة تقدم خلافه المحتمل مع أي طرف عربي على عدائه للمحتل الإسرائيلي.
فطرابلس وطنية قوية تعدل موازين القوى كثيراً في خلده، كما في الخالصة التي صارت – بالقهر – كريات شمونه.
وطرابلس ضعيفة ومهيضة الجناح ومدفوعة دفعاً إلى أي منقذ وأي حل تجعل التطبيع قضية شطارة ووقت ليس إلا، وتجعل كريات شمونه، تجيء إلينا باسمها العبري بدل أن نذهب إليها لنعيد إليها اسمها الأصلي، أو نحفظ على الأقل ما تبقى من أسماء مدننا وقرانا ودساكرنا المتناثرة في ما بين طرابلس وبيت الدين وخلده التي قد يتقرر فيها مصير لبنان كله، بل أكثر منه: مصير سوريا وسائر المشرق العربي، في ضوء موجبات المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي!
هم يحولون “المستوطنة” إلى شريط فإلى قطاع فدولة ثم يقفزون به إلى آفاق الإمبراطوريات وعلينا أن لا نحول دولنا إلى قطاعات وطوائف ومذاهب متناحرة فإلى مناطق تتنفس شميم الدم، دم الأشقاء، وصولاً إلى موقع المحمية فالمستوطنة المتمتعة بالحكم الذاتي المطلق الصلاحية!!
أما من صحوة؟! اما من خطوة واحدة سليمة في بحر التيه والانحراف والخطأ؟
إن كان ثمة خطوة بعد فلتكن في طرابلس.
فطرابلس هي المكان الأنسب لبداية جديدة ولا يهم إن جاءت متعثرة ومحفوفة بالصعاب، فالمواجهة مع الإسرائيلي كفيلة بتصحيح المسار وإظهار كل أحد (وكل جهة وكل تنظيم) على حقيقته.
المهم أن نواجه الإسرائيلي لا أن نتركه يحقق ما يريد لأننا مشغولون بمواجهة بعضنا البعض في صراع عبثي حول … الجنة والنار!
والمهم أن لا نسقط في خلده لأننان احترقنا في طرابلس، خصوصاً وإن نار طرابلس تصل إلى كل أولئك الذين كان يفترض فيهم أن يحموا خلده من السقوط.
فالجنة في ما يلي كريات شمونه، وليس قبلها بل وليست حتى فيها!