طلال سلمان

على الطريق من روسيا إلى العرب.. مع التحيات!

قبل عشرين سنة تماماً زرت موسكو لأول مرة.
ولقد تملكني إحساس لم يفارقني قط بأن “الروس” يشبهون العرب كثيراً، والمصريين منهم بشكل خاص: فهم “فلاحون”، بسطاء، يحبون الحياة يتعلقون بالأرض، يعتزون بتاريخهم، ويرون أنفسهم – على تخلفهم وفقرهم – أمة عظيمة،
“الروسيا المقدسة”، يقابلها “مصر المحروسة” و”العزيزة”. والطيبة التي يغلفها الحذر والريبة من الأجنبي، تواكبها قدرة هائلة على استيعاب “الخارج” و”توطينه”. فكاترين الألمانية تصير رمزاً للعظمة الروسية، كما يصير محمد علي الأرناؤوطي عنواناً للنهوض الوطني (بل القومي) في مصر وعبرها.
والأرض الأصل، تشف العواطف وترق الكلمات وتتهدج نبرات الشاعر والمغني والروائي والحكواتي، وكذلك العريجي والبائع والموظف وهو يتحدث عنها، بل يتغزل بها. هي مزيج من النعمة الإلهية ومن ذوب حنان الأم، هي الطهارة والمال ورأس المال، هي مصدر العزة والفخار والإحساس بالقوة والدوام والثبات،
في الأرض بعض من صفات الله: العطاء الديمومة، الخصب، الحنو على من يعطيها وتعويضه أضعافاً مضاعفة، ثم إنها النسب!
… ولقد تسنى لي أن أزور، من بعد، الاتحاد السوفياتي، وروسيا منه على وجه الخصوص، مرات عدة، ونشأت لي صداقات مع بعض من الدبلوماسيين والكتاب والصحافيين والمثقفين، فما زادتني المعرفة والصداقة إلا يقيناً بعمق التشابه بين “الروس” وبين العرب إجمالاً (لاسيما الفقراء منهم) والمصريين على وجه الخصوص.
بل لقد وجدت نفسي منسابقاً مع المقارنة بحيث وصلت إلى الاستنتاج الخطير: إن “الوطنية الروسية” تنبض تحت رداء العقيدة الشيوعية، وإنها أقوى منها وأعمق أثراً على “الروسي” الذي صار “سوفياتياً”، وإن الأبطال الفعليين للثورة العظمى هم أبطال الوطنية الروسية الناهضة أكثر منهم رسلاً لعقيدة سامية، حتى لو كان واحدهم – في الأصل – من جورجيا كستالين، أو من أوكرانيا كخروتشوف.
فروسيا أكبر من حاكمها، كائناً من كان، قد تكبر به ولكنه لا يمكن أن يكون أكبر منها أبداً،
وكذا مصر… حتى بطلها جمال عبد الناصر صار كبيراً بها، أو أنه صار كبيراً لأنه اكتشف كم هي كبيرة، وتعامل مع حجمها في وجدانه وقلبه وتراثها الحضاري وقدراتها الحقيقية (ومعظمها معنوي أو كامن) أكثر مما تعامل مع حجم رقعتها الزراعية الضيقة قياساً إلى صحرائها البلاد حدود.
اليوم، ولأسباب موضوعية، تحملني الوقائع إلى مزيد من المقارنات بين روسيا وبين العرب عموماً ومصر على وجه الخصوص.
إن الروس والعرب، مع الفوارق، يعيشون حالة انتكاس بل هزيمة لتجربة ثورية علقوا عليها آمالهم العراض، خصوصاً وهي قد رفعتهم من الحضيض ومن البؤس المريع إلى مركز القرار في الكون،
لقد تهاوى النظام الشيوعي بالقصور والعجز الذاتي عن التطور، قبل أن يجيء دور “التخريب الغربي” و”التآمر الإمبريالي” والهجوم الأميركي الأخير على “إمبراطورية الشر” السوفياتية.
ومن قبل كانت حركة الثورة القومية العربية قد تصدعت ثم تهاوت بفعل القصور الذاتي لنظامها القائد، والعجز الذاتي عن التطور وتلبية الاحتياجات الطبيعية لمشروعها العظيم في التغيير، قبل أن يفعل في هدمها ما فعل “التخريب الغربي” و”التآمر الإمبريالي” والهجوم الإسرائيلي الحاسم على “المحروسة” التي “نام نواطيرها” فانفتحت أبوابها أمام العدو المغير وكادت تسقط بلا مقاومة، لولا الاستدراك الأخير الذي كان يجدد فيها “الثورة” ثم انتهى بالموت الذي أدى إلى ردة شاملة وماحقة.
ومن دون التوغل في تفاصيل منهكة فإن كلا من الأمتين الروسية والعربية تعيش حالة من التفكك والضياع وافتقاد الدليل الهادي والقيادة السوية،
إن الجميع، هنا وهناك، يستطيعون تحديد مكامن الخلل في التجربة التي انتهت بالسقوط الذريع، لكنهم لا يعرفون تماماً ما هو البديل وكيف السبيل إليه.
لقد اندفع الجميع، هنا وهناك، نحو النموذج الآخر، الرأسمالي المزين بالليبرالية والديموقراطية والحرية الاقتصادية، متوهمين أنه “الحل”، مع وعيهم بأنهم سبق لهم أن جربوه فأقنعهم بضرورة الثورة عليه وليس بالرفاه وحقوق الإنسان،
لكنهم الآن أكثر وعياً بأن “الحل” ليس في الطرف الآخر، ليس في النظام الأميركي، أو في أنظمة “العالم الحر” عموماً، وإن كان فيها بعض ما ينشدون على مستوى الحريات السياسية،
لكن الجوع كافر، وصندوق الانتخاب لا ينتج خبزاً، وشبكات الأعلام الهائلة النفوذ والانتشار قد تبدل في طبيعة الوقائع، وقد نسهم في تحديد القناعات لكنها لا توزع الكرامة على الباحثين عنها، ولا تستطيع أن تعطي مكانة أو دوراً لدولة أذلها الفقر والعوز وجور الحاكم الذي يحاول جاهداً تصغيرها لتكون بحجمه بدل أن يجتهد ليكبر بحيث يكون جديراً بحكمها.
الروس كما العرب في ضياع،
وطبيعي أن يتكثف رد الفعل على المهانة اليومية التي تتعرض لها الأمة على يد “محررها” من “تاريخها الثوري” فيتخذ منحى متطرفاً قد يبلغ ذروة تجلياته في “عصبية وطنية” حادة، كما في “الروسيا” أو في ما يسمى تجاوزاً “أًصولية إسلامية” كما في ديار العرب بمشرقها والمغرب.
والتطرف ليس هو بذاته الحل، ولكنه بعض الطريق إليه، وقد يكون المدخل إلى الحل الذي ستستولده التجربة ذاتها، بكل مراراتها وقسوتها وأكلافها الباهظة التي قد يجللها دم الشهداء الساعين وراء حلمهم السني بغد أفضل.
الطريف أن “العالم” يرى التطرف في الروس الطامحين إلى الخبز مع الكرامة، أو في العرب الطامحين في حقوقهم المشروعة في أرضهم. ولكنه لا يرى في “الاجتياح” الأميركي للعالم تطرفاً، ولا هو يرى تطرفاً في “الأصولية الإسرائيلية” التي تحاول إبادة الفلسطينيين وإرغام سائر العرب على تسليم كل ما يملكون وإلغاء أنفسهم بالمطلق،
فإن يكون الجنرالات هم الحكام في إسرائيل فهذه ديموقراطية،
وأن يتنافس “الليكود” مع “حزب العمل” على أيهما الأكثر دموية في القضاء على العرب، بحقوقهم وآمالهم وأحلامهم، فهذا نموذج للصراع الديموقراطي بين مؤسسات سياسية عريقة تحترم الأصول الديموقراطية، خصوصاً وإنها تغلف جرائمها بأحكام قضائية صادرة عن المحكمة العليا!!
أما “المسلم” في الجزائر، الفائز في انتخابات مباشرة، فإرهابي خطر،
وأما “المسلم” في مصر، الممنوع فوزه في الانتخابات، ولو النقابية، فمصدر تهديد للحريات والديموقراطية التي تنعم بها مصر في ظل نظامها المهان والفاقد هيبته بقدر عجزه عن تلبية احتياجات شعبه.
… وأمام الروس والعرب طريق طويل قبل بلوغ الحل المرتجى الذي لا يكمن كله في نموذج الماضي الذي أسقطته التجربة، ولكنه ليس قطعاً، في النموذج الأميركي المعروض والذي يشترطه لنجاحه إلغاء الإنسان والوطن والقومية والعقيدة في روسيا كما في مصر وسائر الأرض العربية.

Exit mobile version