طلال سلمان

على الطريق من حبيب إلى مبارك عاجزون أم محرضون؟

… وبين “خلدة” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – “كريات شمونة” يتسع المدى وتتوافر الفرصة لاستجلاء حقيقة الموقف الأميركي من قضية لبنان، بل ومن مجمل القضايا العربية، وموقع هذا الموقف على خريطة العلاقة الخاصة القائمة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، لمن يفتقد وضوح الرؤية!
فعلى الأرض، أرضنا، وبالأرض، أرضنا سيكون تظهير هذه الحقيقة وستتم إعادة صياغة خريطتنا الوطنية والقومية في ضوء معطيات خريطة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية الخاصة جداً والتي تتعدى نطاق أي تحالف استراتيجي.
وبالتأكيد فإن أوهاماً كثيرة قد سقطت ، منذ الاجتياح الإسرائيلي وحتى اليوم، وأوهاماً كثيرة أخرى قد سقطت منذ لحظة بدء الكلام عن المفاوضات مروراً بمباشرتها فعلياً وانتهاء بما وصلت إليه حتى اليوم، حول الدور الأميركي: الإرادة فيه والقدرة ثم الفعالية.
والذين يجارون بالشكوى المرة اليوم من قصور الدور الأميركي أو ضهف الإرادة الأميركية في مساعدة لبنان، او النقص في قدرة إدارة ريغان، وبالإجمال من هذه المحدودية المفجعة في الضغط على الإسرائيليين – ولو من موقع الوسيط، إذا ما تجالهنا حكاية الشريك الكامل – هم هم الذين خدعتهم الوعود الأميركية والتعهدات بانسحاب إسرائيلي كامل شامل في عيد الاستقلال أو عيد الميلاد أو عيد الغطاس، فتصرفوا وكأن الأمر قد انتهى ولم تبق غير إجراءات التنفيذ على الأرض!
على إن هذا الخطأ في التقدير لا يعفي الإدارة الأميركية من مسؤولية التهاون ولا يبرئ ساحتها – حيالنا كما حيال أصدقائها ورجالها من حكام العرب – من جناية تضخيم القوة الإسرائيلية وتعزيزها بحيث باتت أقوى من العرب مجتمعين، وكذلك من جناية تركها تستخدم أهم وأحدث وأخطر ما في ترسانة “الدولة الأعظم والأغنى” ضد الأقطار العربية.
وليسمح لنا الذين يبالغون في تقدير التأثير الصهيوني (والإسرائيلي) على الولايات المتحدة وحكامها وصانعي القرار فيها، إلى حد تصوير إسرائيل وكأنها هي الدولة العظمى، أن نسألهم ببساطة: بسلاح م نضربتنا وتضربنا إسرائيل؟! وهل من أعطى السلاح والامكانات الاقتصادية لم يكن يدرك ما هو فاعل؟! وهل اختلست تلك القدرات الإسرائيلية الخارقة في غفلة منه؟! وهل بلغ به العجز حد الاستسلام أمام التعنت أو الجبروت الإسرائيلي، وهو صانعه؟! وإذا كان هذا هو الواقع فلماذا نرتمي في أحضان هذا الأميركي الخائر والضعيف والذي لا يملك قراره؟!
ثم، لماذا نرى الولايات المتحدة “جبارة” إلى هذا الحد في مواجهة دولة عظمى كالاتحاد السوفياتي ومعه “الشيوعية الدولية” وضعيفة في الوقت ذاته إلى هذا الحد في وجه الدولة اليهودية؟!
ولماذا تبرز القدرة الأميركية هائلة التأثير على دول قوية وعريقة، وعظمى (سابقاً) كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، بل أوروبا الغربية مجتمعة، وتختفي فجأة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، علماً بأن ما بين واشنطن ودول غرب أوروبا من تحالف استراتيجي لا يقل مطلقاً عما بينها وبين تل أبيب، بل إن التحالف هناك موثق ومقنن وملزم (حلف الأطلسي) بينما هو هنا عرفي فحسب؟!
ونقطة أخرى: لماذا يسقط لبنان، أو يقلل من أهمية حقوقه على الولايات المتحدة؟
أو ليس لبنان بلداً “غربياً” بنظامه الاقتصادي الحر وانتمائه المعلن إلى ما يسمى “العالم الحر” الذي تتزعمه الولايات المتحدة؟!
لا مجال، طبعاً، للادعاء أن الغول الشيوعي على وشك أن يلتهم لبنان بخاصة والمنطقة العربية عامة، ولا للزعم إننا “محايدون”، فنحن سواء أعلناها أم لم نعلنها داخل منطقة النفوذ الأميركية، ونحن بعض المصالح الأميركية في المنطقة.
وكذلك الأمر بالنسبة لمعظم الدول العربية التي تجاهر بهذه السياسة وتمارسها إلى حد مغالطة النفس والخروج على طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ بامتناعها – مثلاً – عن الاعتراف بالاتحاد السوفياتي ومعه بعض دول الكتلة الاشتراكية أو كلها، وإقامة علاقات دبلواسية معه (ومعها).
على الهامش: روى بعض من كان في موسكو أيام زيارة اللجنة السباعية العربية التي رئسها الملك حسين وضمت بين أعضائها الأمير سعود الفيصل واقعة ذات مغزى… فلقد سأل المرافق السوفياتي الأمير السعودي عن انطباعاته عن موسكو التي يزورها لأول مرة، فرد الأمير بأن الزيارة كانت طيبة الأثر في نفسه وإنه مرتاح لنتائجها، وإنه يرغب في أن يزور عاصمة السوفيات مرة بل مراراً أخرى. هنا قال المرافق بشيء من الخبث: “نتمنى يا سمو الأمير ألا تفصل بين زيارتك الأولى هذه والزيارة التالية مسافة خمسين عاماً!”.
وكان المرافق يلمح بذلك إلى أن الأمير فيصل (الذي صار ملكاً للسعودية في ما بعد، وهو والد الأمير سعود) قد زار الاتحاد السوفياتي قبل خمسين عاماً بالضبط. (سنة 1932) وكان العاهل السعودي الراحل يشغل يومئذ المنصب ذاته الذي يشغله ابنه اليوم، وزيراً لخارجية والده عبد العزيز”. ثم بعد ذلك قطعت العلاقات وسحبت السعوديةاعترافها بالاتحاد السوفياتي!).
… أفلا تستحق واقعة مثل هذه أن ترد الولايات المتحدة الجميل لأصدقائها السعوديين الذين أعطوها ويعطونها حتى اليوم، سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، ما يفوق التصور وما تعجز عنه إسرائيل بكل السلاح الأميركي الرهيب الممنوح لها بالمجان، ومن أجل تأديب “الأصدقاء العرب”؟!
ما علينا، لنعد إلى السياق:
لقد جاء فيليب حبيب وذهب، سمع من الإسرائيليين شروطهم القاسية بصيغتها النهائية والمحددة، وسمع من اللبنانيين رأيهم في هذه الشروط التي لا يمكن قبولها بأي حال. ولقد دون ما سمع بعناية فائقة وعاد إلى رئيسه، بأمل أن يرجع إلينا بالقرار الأميركي النهائي والمحدد (؟!)
فهل يتحرك من بيدهم القدرة ويمارسون على ريغان وإدارته الحد الضروري واللازم من الضغط لكي تلقي الولايات المتحدة بثقلها على طاولة المفاوضات، فتمنع عن لبنان (والعرب) خطراً يهدد المصير بل الوجود ذاته، ناهيك بالاستقلال والسيادة والحقوق المشروعة والدور المميز المؤهل للعبه بالمنطق الأميركي ذاته، ودائماً في إطار “غربيته” وانتمائه المعلن إلى “العالم الحر”؟!
إن المسؤولين الأميركيين أنفسهم يعترفون إنهم حتى هذه اللحظة لم يمارسوا دورهم لا كضاغط ولا كشريك ولاحتى كوسيط في المفاوضات، مما يعني إن موقفهم يضيف قوة إلى قوة المحتل الإسرائيلي.
وليس من حق الأنظمة العربية التي أدانت معاهدة الصلح المنفرد واتفاقات كامب ديفيد وأخرجت مصر – السادات من الجامعة العربية وقاطعتها ، أن تتخلى لحسني مبارك عن دور “المنقذ” أو الأكثر نفوذاً بين العرب لدى الأميركيين، خصوصاً وإن هذا الدور غير واقعي والمرشح للعبه أكثر نواضعاً من أن يدعيه.
إن ظهور حسني مبارك بمظهر القادر على أن يقدم للبنان ما لم تقدمه لم السعودية (والمغرب والجزائر والأردن والكويت ودولة الإمارات الخ) هو تحريض عملي للبنان على انتهاج الطريق ذاتها وعقد صفقة مباشرةمع العدو الإسرائيليز
وما كان ممكناً أن يطير موفد رسمي لبناني إلى لقاء مع حسني مبارك في القاهرة لو أن أصدقاء الرئيس الأميركي ريغان (ووزيره شولتس) من العرب لعبوا دورهم المفترض مع لبنان، وقبل مع السادات ثم مع خليفته، وأساساً مع الولايات المتحدة.
… ولم ننس إسرائيل، لكننا أغفلنا ذكرها لأننا نعرف مسبقاً إنهم لا يريدون ولا يقدرون على القيام بالدور المطلوب منهم في مواجهتها.
إن لبنان مطالب بموقف صلب، حماية لذاته، وحماية لأخوانه العرب، وهو مطالب به حتى لو قصروا حياله، لأنه بعض موجبات مصالحه الوطنية العليا.
لكن العرب الآخرين، لاسيما عرب أميركا، مطالبون بتحرك أكثر جدية وأكثر فعالية حماية لأنفسهم (ولأصدقائهم الأميركيين) ومن بعد حماية للبنان أو ما تبقى منه.
أما استمرار التقصير فليس له غير معنى وحيد: استخدام لبنان جسراً على القاهرة للوصول على تل أبيب.
وهذا دور يدمر لبنان أكثر مما دمره الاحتلال الإسرايئلي، فالحذر الحذر من التورط فيه: مهما كانت مصاعب الطريق الآخر، الطريق الأصعب والأقصر والأكرم.
… مع التنويه بأن ما “عجز” عنه فيليب حبيب لن يقدر عليه حسني مبارك ما لم يحصل تبدل أساسي يستوجب صدور قرار أميركي آخر قد تكون أولى ضحاياه الضفة الغربية وغزة ومنظمة التحرير الفلسطينية ولبنان مرة أخرى وأخيرة؟!

Exit mobile version