ليس رينيه معوض واحداً من رؤساء الجمهورية في لبنان. إنه الرئيس الثامن عدداً ولكنه رئيس “الحل العربي” للأزمة اللبنانية، وهذا يجعله يختلف نوعاً وقدرات ومدى حيوياًز
إنه رئيس بداية النهاية للحرب الأهلية. لا هو رئيس بدايتها ولا رئيس استمرارها وإدامتها. وقد لا يكون رئيس عهد السلام الوطني الشامل، برغم إن اللبنانيين (ومعهم العرب جميعاً) يتمنون أن يكونه، فالكل بحاجة إليه في الداخل والخارج على السواء، مع استثناءات معدودة ومحدودة التأثير.
وليست الحكومة التي سيطل بها الرئيس رينيه معوض على الناس، بوصفها عنواناً لـ “العهد الجديد” واحدة في قائمة طويلة من الحكومات التقليدية التي تعاقبت على “تصريف الأعمال” وتغطية الرئيس وتمكينه من الحكم عبر غلالتها الديموقراطية الريقيقة…
إنها حكومة الحل العربي.
إنه والحكومة واحد. هما معاً صورة الحل العربي في سدة السلطة في لبنان.
إنهما معاً “قرار عربي – دولي” واضح وحاسم بتسوية سياسية للأزمة في لبنان، قد لا ترتقي إلى مستوى “الحل” المنشود، ولكنها تمهد له ولا تخرب عليه، تقربنا منه ولا تنسف احتمالاته وإمكان “اصطياده” ذات يوم.
لكن ثمة منطقين في التعامل مع هذه الواقعة:
*الأولى يقول هي تسوية، وتسوية طائفية، تأخذ بالاعتبار الأمر الواقع وتؤسس عليه فتبدأ بمصالحة وطنية لا تستثني أحداً (إلا من استثنى نفسه) ولا تغلي أحداً، وتعيد بناء العهد الجديد بحجارة العهد القديم ذاتها… و”القديم” هنا قديمان: ما قبل “حكومة الوحدة الوطنية” التي أطلت على الدنيا بعملية قيصرية في ربيع 1984، وما بعد هذه الحكومة التي تفرعت إلى حكومات تعكس حالة الانقسام الوطني التي تفاقمت في البلاد فمزقتها بعد “انقلاب” أمين الجميل الذي أخرج الطائفة العظمى من التوافق الاضطراري الذي تم التوصل إليه بعد إلغاء اتفاق 17 أيار و”انتفاضة” 6 شباط ومؤتمر لوزان الشهير.
*والمنطق الثاني يقول: صحيح إنها تسوية، وتسوية طائفية، ولكن لها إطارها المحدد بقرار قمة عربية، ولها خطتها التنفيذية أو الإجرائية المرسومة بدقة، والتي تم تفيذ عدد من بنودها بقوة الإجماع العربي معززاً بتأييد دولي عز نظيره بلغ ذروته باستصدار بيان من مجلس الأمن الدولي، إلى جانب البيانات والتصريحات والاعترافات والتهاني التي جاءت تمنح العهد الجديد “درع التثبيت”.
وبهذا المعنى فإن هذه التسوية لا يجوز أن تسقط أو يُحوّر مضمونها بسبب اعتراض هذا الطرف المحلي أو ذاك عليها بمجملها، أو على بعض جوانبها أو بنودها.
أبسط دليل إن “مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين” في الطائف قد أنجز مهمته، برغم الاعتراضات والتحفظات والتعديلات التي أدخلت على نص الوثيقة العربية للوفاق الوطني، وبرغم إن طرفاً أساسياً (بالمعنى الطائفي) قد وصل بالتحفظ إلى حد الانسحاب من جلسة الكاتو الختامية.
فهل يستطيع ميشال عون، وحده، إسقاط هذه التسوية، ومن ثم الحل العربي؟!
وهل يعجز الحل العربي – بكل التأييد الدولي – عن حماية نفسه والتسوية؟!
وهل إذا وضع اللبنانيون، بقواهم السياسية ومراجعهم الروحية، في كفة، ومعهم العرب والعالم، والجنرال في كفة أخرى ترجح كفة الجنرال الذي لا يفتأ يردد “من يستطيع أن يدفع ثمن قصر بعبدا فليأت ليخرجني منه…”؟!
وما هو على وجه الدقة دور اللبنانيين في الحل العربي؟!
هل هم مجرد طرف متلق، يسخر العرب والدول والمنظمات العالمية جميعاً لخدمته، وكأنه ريمون اده، فينظفون له البيت (ويرفعون القمامة من الشوارع)، يؤدبون المنحرف وبضعون حداً للمتجاوز، يقتصون من المرتكب ويكافئون المطيع والملتزم بآداب السلوك، ثم يؤدون له التحية قبيل الانصراف بعد أن أدوا مهمتهم مشكورين؟!
أين تنتهي حدود الدور العربي في الحل العربي، ويبدأ الدور اللبناني، وهل ثمة التباس في هذا المجال؟
هل كان باستطاعة الأخضر الإبراهيمي أن يودعنا وينصرف بعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد والقيام بواجب تهنئته في إهدن، أم لديه بعد ما يفعله من ضمن مهمته الرسالية الجليلة؟
وهل يستطيع الأخضر الإبراهيمي، وهل يجوز له أن ينوب عن رينيه معوض، الرئيس الماروني للحل العربي المنتخب بالإجماع النيابي، لبنانياً؟!
وللمناسبة، هل يمكن، وبهذه البساطة، أن يسلم اللبنانيون والعرب والعالم بواقع اختزال الموارنة في شخص ميشال عون (ومن معه)؟!
هل يشطبون البطريركية المارونية (ومعها الكهنوت، ولو بتحفظ!!)، والنادي السياسي الماروني برمته، والأحزاب المارونية، بما فيها “القوات اللبنانية” العاجزة عن الحركة، حالياً، وإن لم تعجز عن التعبير عن “عاطفتها” الجياشة تجاه الجنرال الذي بدأ بها حرب تحريره المجيدة؟!
وما مسؤولية الحل العربي إذا فشلت قيادات الطائفة العظمى ومؤسساتها السياسية والحزبية والعسكرية في مواجهة النبت الشيطاني لمؤسسة التعصب التي أنشأها بيار الجميل ورعاها كميل شمعون وأدخلها فؤاد شهاب جنة الحكم تملقاً ونفاقاً لخط الانحراف داخل الطائفة، وعززها شارل حلو ببركته الطوباوية التي أسبغها على “الحلف الثلاثي”، ولادة الحرب الأهلية وحاضنتها ومرجعية الرؤساء والرئاسات؟!
وما مسؤولية الحل العربي عن نتائج السياسات التي مورست – في الداخل والخارج – فأعطت إسرائيل حق “تعيين” اثنين من رؤساء الجمهورية، ومن ثم “حق” المشاركة في القرار السياسي الوطني، من غير أن يرتفع صوت احتجاجاً على اغتصاب السيادة التي ولدت “سفاحاً” العديد من التنظيمات الطائفية والمذهبية؟!
وكيف تكون سيادة بلا وحدة وطنية، وكيف يكون استقلال؟!
وكيف تبقى تسوية، ولو طائفية، إذا كان الطرف المهيمن فيها قد انتقل إلى معسكر العدو؟!
طبعاً، لا يعني هذا الكلام إعفاء الحل العربي من مسؤوليات التقصير العربي، والاهمال العربي للمسألة اللبنانية، وبعض أشكال التوظيف للأزمة اللبنانية في الصراعات العربية – العربية.
لكن هذا الحل العربي، ومهما كانت مسؤولياته، في الماضي والحاضر، لا يعفي الأطراف اللبنانية، والقيادات المارونية على وجه التحديد، من مسؤولياتها باعتبار موقعها المميز في النظام والدولة وصيغة الحكم الفريدة.
إن ميشال عون “مشكلة مارونية”.
هو مشكلة للبنان، وللعرب، وللعالم أجمع، ولكنه بداية وانتهاء “مشكلة مارونية”.
والحل لا يكون مارونياً، لا يمكن ولا يجوز، وبالتالي فلا يكون بالمصالحة المارونية، بل بالمصالحة الوطنية الشاملة على قاعدة التسوية الطائفية التي يرتكز إليها الحل العربي.
على إن المبادرة مارونية بالضرورة، وهي مسؤولية مباشرة للرئيس الماروني المنتخب بإجماع نيابي (ووطني) لبناني تحت مظلة الحل العربي وباسمه.
إن ميشال عون هو الثمرة الفجة للحرب الأهلية في لبنان، إنه ثمرة الفشل الماروني في حماية النظام المختل والمعتل، والفشل الماروني في تطوير هذا النظام بما يتلاءم مع مقتضيات الحياة.
لكنه، وللأمانة، يختزل صورة مصغرة لأسوأ ما في زعامات الطوائف الأخرى وممارساتها وارتكاباتها التي ما كانت لتقع أو لتتفاقم لولا إنها تقليد غبي للطائفة العظمى.
فميشال يكرر، بفجاجة، وبكثافة سوابق وأفعالاً شنيعة اسناق إليها أو تورط فيها الرواد من الموارنة والطوائف الأخرى، في التجرؤ على الدستور، على القانون، على العرف والتقاليد، على الأصول والمقدسات الخ…
ودائماً كان لأمثال هؤلاء جمهورموتور ومندفع بالتعصب، كما الوحش بلا رأس، إلى حد إيذاء الذات (بعد الآخرين) وجر البلاد إلى خطر الانتحار الجماعي.
ذلك إن الخلل في النظام كان يستولد جماهير للمعترضين على قصوره أو تقصيره، سواء أعن يمينه أو عن يساره.
فالمهيمن كان يريد هيمنة مطلقة، بلا شراكة أو رقابة أو حساب.
والمستضعف كان يطمح إلى كسر الهيمنة بالدخول إلى جنة النظام ونعيم الحكم، ثم ينسى إذا ما دخل بعض رموزه الموضوع الأصلي لاعتراضه، وهو ما يعنيه ويعني الناس جميعاً.
اليوم، وفي ظل الحل العربي، المعزز بهذا التأييد الدولي الفريد في بابه، لا بد من كسر المعادلات القديمة البائسة خذوا من التسوية وأعطوا المتطرف والأرعن والمجنون حتى يرضى لإنقاذ البلد ونظامه!! لا بأس من قدر من التنازل للمتاجر بالطائفية حماية للوحدة الوطنية!! ارضوا الخارجيون على الدستور والقانون والمفرطين بسلامة الوطن، أرضاً وشعباً، لإنقاذ الصيغة!!
وكانت النتيجة الحرب الأهلية التي تبدو وكأن لا نهاية لها!
والخوف أن نكون الآن أمام وضع نستبيح فيه التسوية الهشة، تحت ذريعة المصالحة المارونية، بحجة الحرص على الحل العربي وضرورة إنقاذه.
الخوف أن نجد أنفسنا مطالبين بالعمل لإنقاذ الرئيس الآتي للإنقاذ، والحل الإنقاذي الذي ولد لنا هذا الرئيس الهادئ والواجد نفسه في وضع لا يحسد عليه؟!
كيف يساعد الرئيس رينيه معوض نفسه؟!
وأية حكومة هي القادرة فعلاً على مساعدته؟!
وكيف يساعدنا الحل العربي فيحمي العهد الجديد ويستمد منه قوة إضافية نحتاجها في المراحل المقبلة؟
تلك عينة من الأسئلة الحائرة بحثاً عن أجوبة، وحديثها، في أي حال، مفتوح، هنا كما في كل مكان.