سنظل من عشاق الأميرة التي اسمها بيروت،
بل لعلنا نزداد لها حباً بمقدار ما يتزايد اضطهادها وإذلالها ومحاولة نسخ تاريخها النضالي ودورها القومي الذي لا يعوض،
ستظل عنوان قصيدتنا، مهجع أمانينا الغوالي، منارتنا، مفخرتنا، سيدتنا والحبيبة، مكتبتنا ومطبعتنا، مشفانا وصحيفة الصباح،
سنزداد تعلقاً بها ليس لأننا نحب “غابة الحجارة” فيها أو أبراج الزجاج، بل لأننا نستمد الكثير من قيمتنا منها، ولأنها تمنحنا دفء الانتماء إلى النور والعلم والمعرفة، ولأنها تجعلنا في المركز الممتاز نطل على الدنيا كلها إطلالة المقتحم القادر المدرك كنه السياسات، المواكب ركب التقدم الحضاري، المستوعب روح العصر، وبالتالي: المؤكد لجدارة الإنسان العربي بأن يصنع غده الأفضل عشية القرن الحادي والعشرين.
إن بيروت معركة عربية منتصرة في زمن عز فيه أي انتصار،
إنها النموذج – النقيض للصورة العربية الأخرى التي يراد تعميمها على العالم: صورة “البدوي” المتخلف، الجاهل، السفيه في إسرافه، الضيق الصدر والأفق، والذي يرهن بنفطه (الذي لا فضل له فيه ولا قدرة لديه على استخراجه) مستقبل الحضارة الإنسانية في بلاد الخواجات المتحضرين.
وبيروت ليست أميرة على العرب، هي عاصمتهم والمرآة العاكسة لقدراتهم وطموحاتهم وأحلامهم الكبار في التقدم والديموقراطية ومواكبة العصر.
إنها أميرة عربية على الغرب والغربيين، على إسرائيل والإسرائيليين وأعداء العرب أجمعين،
وبهذا المعنى فإن الحرص عليها والحفاظ عليها مهمة قومية إضافة إلى كونها “المركز” أو “القلب” الذي لا وطن من دونه.
فالجنوب بيروت، والبقاع بيروت، والشمال بيروت، وبيروت هي هي الجبل، ومن غيرها لا يبقى من تلك “الأجزاء” إلا كونها “جهات” لا تعوضها الجغرافيا عن التاريخ، ولا تعوضها “الكنتنة” غياب الإطار والرابطة وحبل السرة المسمى “الوحدة الوطنية”.
اليوم نرانا مضطرين لأن نرفع الصوت مجدداً مطالبين الجميع بحماية بيروت (أو ما تبقى منها)…
لن نعلن الاستسلام ولن نرفع الرايات البيضاء ولن نركع إذلاء مسترحمين أولئك الذين يرمون وجهها الصبوح بماء النار،
على العكس تماماً، سنشهر أكثر حبنا لبيروت، وسنطارد بهذا الحب العظيم أولئك الذين تعميهم أحقادهم أو أغراضهم أو أمراضهم عن رؤية حقيقة بسيطة وهي : إنهم متى خسروا بيروت خسروا الدنيا والآخرة، فلا مدينة تعوضها للغير فكيف لأبنائها ولمن يعيش فيها وبها وعليها؟!
وهكذا فإننا لن نرثي اليوم “دار الهندسة”،
ومع تفهمنا لدوافع إدارتها في اتخاذ قرارها بإقفال المؤسسة الناجحة وتسريح موظفيها الأربعمائة. فإننا لا نستطيع قبول مثل هذه الهزيمة، ومثل هذا الاستسلام للابتزاز والمبتزين.
قد يكون الصمود مغامرة، لكن الاستسلام انتحار، ثم إنه نحر لبيروت التي نحنب، والتي ما تزال تعيش في وجداننا ننسج حولها أحلام مستقبلنا السنية بقدر ما تشكل بذاتها محور ذكريات ماضينا الغالية.
لن نسلم بأن بيروت قد استحالت، ونهائياً، غابة للمسلحين وحقل رماية ومكباً للنفايات وأرضاً مشاعاً يقتطع منها كل قادر – بالسلاح أو بالمال المستخدم لشراء بعض المسلحين – ما تطال يمينه.
لن نترك الفوضى تلتهمنا مؤسسة مؤسسة بعدما كادت تلتهم مجموعنا فرداً فرداً وشارعاً شارعاً حتى حشرتنا جميعاً (بكل إرادة التغيير فينا) في بعض الزواريب.
والأهم إننا لن نترك القتلة الذين يريدون تحويل الأميرة بيروت إلى أرملة مجرحة الخدين، مقرحة العينين، تغرق في سواد الحزن وسواد الاذلال، لن نتركهم يصلون بخناجرهم إلى دمشق وإلى قضيتنا المقدسة فلسطين،
وبحماية بيروت نحمي دمشق التي تتولى مسؤولية مباشرة عن سلامة لبنان كله وبيروت على وجه الخصوص،
كذلك فإننا بحماية بيروت نحمي ما تبقى من قضية فلسطين، فالخلاف – بأساسه – من أجلها، أو يجب أن يكون وليس عليها، والسلاح هو موضوع الخلاف وليس الوجود الفلسطيني،
ولا بد من وقفة جادة ومسؤولة أمام حظر استشراء هذا المناخ المسموم الذي يترك الفرصة واسعة أمام أعداء العرب جميعاً، أعداء لبنان وأعداء سوريا وأعداء فلسطين، لكي يوجهوا طعنات قاتلة تحت ستار التعصب أو الانتقام مستفيدين من جو الهياج المطلق العنان للغرائز وأغراض السوءز
وبرغم إننا على شبه يقين، جميعاً، من أن سابا داوود عبدو لم يخطف بسبب من أصله الفلسطيني أو خانة الدين أو المذهب في هويته، فإن القوى المعادية جميعاً وتجار الحروب والمنتفعين بها سيستخدمون ذلك كله لتعميم الفتنة وتبرير أية عملية تخريب مخطط لها ومرشحة للتنفيذ.
إن بيروت هي الآن “القضية”: سلامتها تماسكها، حفظ ما تبقى من ملامحها الأصلية، ومن الدعائم الضرورية لإعادة بنائها عاصمة للعرب جميعاً ومنارة لهم وحبيبة، بقدر ما هي تلخيص لأعظم مزايا لبنان وميزاته،
ولا بد من الالتفات إلى بيروت وعلاج جراحها، قبل القمة العتيدة (؟) وقبل القمة الأخرى المجهولة المصير، وحتى قبل نجاح المبادرات والمساعي المبذولة لوقف حرب المخيمات،
فعلى أية أرض تعقد القمة إذا لم تكن بيروت في الحد الأدنى من عافيتها؟
ثم إن سلامة بيروت وضمان أمنها وأهلها مدخل لا غنى عنه لعلاج موضوع المخيمات؟
من هنا التوجه إلى “الأمن المرجعي”، ومصدره دمشق،
ومؤكد إن دمشق لن تتردد، ولن تتأخر، ولن تقصر في تحمل مسؤوليتها في حماية الأميرة العربية التي اسمها بيروت، وحماية كل مواطن فيها، كائناً ما كان اسمه ونسبه ودينه ومسقط رأسه.