تتوالى “احتفالات” الأحزاب السياسية في لبنان “بأعيادها” وسط أجواء كرنفالية مزركشة بالمجاملات والنفاق الاجتماعي وبعض التبديل اللفظي في الخطاب السياسي بما يتناسب مع إثبات الأهلية لصنع السلام بالكفاءة ذاتها التي أكدتها في الحرب!
لكن “هيصة” الأعياد تمضي سريعة، وحين يُفض “المولد” ويرفع السرادق وتنطفئ أضواء الكاميرات التلفزيونية لا يتبقى غير الخواء وغير افتقاد “الحزب”، أي حزب، والقدرة على إنجاز الشعار الصارخ!
ولا يتجه الكلام إلى حزب الكتائب، بالذات، الذي احتفل أمس، وبتأخير مقصود لعيده حتى يتواءم هذه المرة مع “بيروت الكبرى”، في حين كانوا يوائمونه عادة مع “الاستقلال” بالذكرى الرابعة والخمسين (!!) لتأسيسه… فالأزمة تلف الأحزاب جميعاً، الأممية منها والقومية والمحلية، العقائدية والطائفية والمذهبية، وهي ليست عارضة ولا هي طارئة وأعمق من أن تحل في المدى المنظور، خصوصاً مع استمرار هذه التبسيطية القاتلة في التعاطي مع القضايا المصيرية.
والحزب العاجز عن مواجهة أزمته الذاتية، الفكرية والسياسية والتنظيمية والاقتصادية، لن يستطيع تقديم شيء لحل أزمة الوطن، بل هو سيتحول إلى عبء إضافي وعنصر إعاقة، لاسيما متى كاقبر فادعى إنه في أحسن حال بدليل نجاح كرنفالاته الاحتفالية التي يرى فيها “أعراساً وطنية”.
إن الثياب جديدة، وبعض مفردات الخطاب السياسي القديم أليست حلة مستوردة من الطائف، لكن المضمون القديم لم يتبدل وما زال يقوم شاهداً على غربة “الأحزاب” عن هموم “الشعب” ومطامحه بمن فيه جمهور المحازبين المخضرمين، الذين استمروا في الحزب على مر السنين أما بسبب من التعود وإما لأنهم نسوا أن يخرجوا منه وإما لأنهم لا يجدون لأنفسهم مكاناً آخر لقتل الفراغ وإما لأن العضوية وظيفة أو مهنة ومصدر دخل مضمون!
وليس في الأحزاب “الديموقراطية” في لبنان عرف أو تقليد التقاعد أو الاستقالة، لاسيما على مستوى القيادة التي هي دائماً (!!) تاريخية، إلا بالانتقال إلى الدار الآخرة… والتجدد في القاعدة محكوم بالسقف الأبدي لمن هم تاريخيون، أي بالتحجر، فيبقى كل في مكانه، بما في ذلك الشعار المصاغ بإغراءات مشابهة لتلك التي تروّج للمشروبات الروحية والعطور أو الملابس النسائية!
لنعد إلى الموضوع : حزب الكتائب و”عيده” الذي حالت دون مشاركة أوسع فيه عوامل موضوعية تتصل بتراث الحزب وبينها كل تلك المتاريس القديمة والذكريات التي لما تمت والالتباسات الفاقعة في موقف قيادته “الجديدة” المحاصرة بين ماض لم يكن يريدها وبين حاضر تتمنى لو تغيره،
وبغير رغبة في تنغيص فرحة جورج سعادة ومن معه بعيد حزب يرى البعض إنه قد صار من الماضي، فإن المناسبة تفرض جملة من الأسئلة التي تعني الكتائب بقدر ما تعني سائر الأحزاب اللبنانية، وإن كانت حصة “فتى الكتائب” أكبر بحكم الحجم والدور.
من هذه الأسئلة:
*أما آن بعد أوان محاسبة الذات عما كان طوال دهر الحرب؟!
*أما جاء بعد وقت إعادة النظر في دور هذا الحزب وخطابه السياسي الذي شكل باستمرار أحد مسوغات الحرب، كونه قد اتسم بالتطرف وبشيء من الأصولية التي سرعان ما استشرت في البلاد وكأننا في ظل حملة صليبية جديدة!
*هل الكتائب حزب الطائفة المارونية في لبنان. أم هو حزب المسيحيين في الشرق، أم إنه كما تقول لافتته المموهة “حزب ديموقراطي اجتماعي” تواضع فوضع نفسه في خدمة لبنان؟!
*وأين هو من صورته الأولى كحزب لعامة المسيحيين وليس نخبتهم، لفقرائهم وفلاحيهم ومثقفيهم من أبناء البورجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، كما كان يزعم له بعض دعاته من أبناء الأطراف والملحقات. الدرجة الثانية عموماً؟!
*من يمثل، بالفعل، حزب جورج سعادة الآن؟!
*وقبل: هل هو حقاً حزب جورج سعادة، وهل تبقى “كتائب” إذا غاب عنها ظل آل الجميل؟! وأي كتائب تكون، وكتائب من؟!.. خصوصاً وإن آل الجميل قد استخدموا الحزب سلماً للقفز إلى سدة السلطة، فلما وصلوا كان هدفهم المباشر أن يحطموا السلم حتى لا يستخدمه أحد غيرهم.
أذكر إنني سألت الراحل بيار الجميل “عشية انتهاء مؤتمر لوزان (شتاء 1984) وكان في الثامنة والسبعين، عن سر تشبثه بقيادة الحزب على امتداد نصف قرن، وكتم أنفاس الأجيال الجديدة من المحازبين، فكان جوابه، وبالحرب: “- شو بدي أعمل؟! إذا أنا تركت سيختلفون ولن يستطيعوا الاتفاق على غيري، بدك إني أدمر الحزب!!”.
وحين استهجنت أن يعجز حزب سياسي لجب عمره خمسون عاماً عن مواجهة أمر طبيعي، كالتغيير رد الشيخ بيار باستهجان أشد لأنه عاجز عن تمثل الكتائب من دونه، ولأنه لا يثق بأن ذريته الصالحة ذاتها قادرة على حماية هذا الإنجاز التاريخي!
في أي حال فالمفترض أن بيار الجميل قد أخذ “كتائبه” معه، وما تبقى منها قضى نحبه على يدي بشير ثم أمين الجميل، فهل حزب جورج سعادة هو الكتائب، أم إنه حزب آخر…
** السؤال بصيغة أخرى: هل يستطيع جورج سعادة أن يحيي العظام وهي رميم، أم إنه وعى الحقيقة. فحافظ على اللافتة وطفق يبني حزباً آخر، في ضوء معطيات اللحظة السياسية الراهنة؟!
** ثم هل يقدر جورج سعادة على إنجاز مثل هذه المهمة التاريخية؟! هل هو مؤهل لها؟! وهل ما تزال البلاد بحاجة إلى ذلك الحزب الذي بدأ مع شارل حلو ويوسف السودا وجورج نقاش فريقاً رياضياً وانتهى مع بيار الجميل ونجليه واحداً من أبرز أبطال الحرب الأهلية في لبنان وخارجه؟!
وأين موقع جورج سعادة بين “أرامل” القائد المؤسس الراحل وورثته المباشرين وبالذات منهم: أمين الجميل وسمير جعجع والابن بالتبني ميشال عون؟!
ما أثقلها من مهمة على ابن شبطين الذي تأصل فيه الأسلوب التعليمي وأخذ عن رئيسه الراحل خطة إغراق الناس في التفاصيل بحيث تضيع عن أهدافها الأصلية وجوهر الموضوع.
لكن السؤال يظل مشروعاً ومطروحاً على جورج سعادة كما على غيره من قادة الأحزاب:
-أما آن بعد أوان المراجعة النقدية للتجربة المرة؟!
لقد تبدلت البلاد. تغير الزمن. تزلزلت الدنيا بالبريسترويكا والغلاسنوست وهيمنة القطب الأوحد. والأحزاب القديمة إلى اندثار أو إلى “تجدد” يجعلها غير (حتى لا نقول: نقيض) ما كانت عليه.
ثم إن حزب الكتائب بالذات مثقل بالأوزار لدرجة تجعله يبدو كسيحاً في حين تقدم “القوات اللبنانية” نفسها بوصفها بديل العصري تاركة لقيادته تركة آل الجميل وممارساتهم المدانة تاريخياً، بمنطوق اللحظة الراهنة، أو في أقل تعديل: التي لا تنسجم مع مقتضيات اللحظة.
ومع تجنب الغرق في العرض التاريخي فما يمكن قوله، بسرعة:
إن ولوج الكتائب الساحة السياسية، وتنامي دوره وتعاظم هذا الدور وكأنما بقرار وبقصد مقصود قد تزامن مع حالة النهوض القومي، مشكلاً حالة اعتراض سياسية مموهة بلبوس الطائفية.
وليس بالمصادفة إن الكتائب قد “ولدت” سياسياً في أواخر عهد كميل شمعون وفي لحظة تصادمه – من موقع رمز “الكيان” اللبناني – مع المشروع الوحدوي سنة 1958 (قيام الجمهورية العربية المتحدة).
وليس بالمصادفة إن الشهابية قد استخدمت خلال عهدها حزب الكتائب ككابح أو عذر لقصر “العروبة” لبنانياً على مواكبة السياسة الخارجية العربية بغير أن يمتد ظل عبد الناصر وحركته التغييرية إلى “الداخل”، ومرة أخرى بحجة الحرص على الكيان، بمضامينه الدينية والطائفية،
وليس بالمصادفة إن حزب الكتائب وقد تمكن انتقل إلى الهجوم مباشرة بعد الهزيمة العربية سنة 1967 فكان إسهامه الجدي في “الحلف الثلاثي” سنة 1968، وفي الوقت ذاته مبادرته إلى إنشاء ميليشيا مسلحة حتى من قبل أن تتواجد المقاومة الفلسطينية في لبنان (شهادة شخصية لأمين الجميل).
وعشية حرب 1973 المجيدة كان الحزب يمضي في استعداده للدور الذي هيأ نفسه له والذي انتهى به – وبغض النظر عن النوايا – لأن يكون أحد الأبطال المبرزين في الحرب الأهلية.
وكان عليه أن ينتظر اكتمال الهزيمة بالغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982 لكي يقفز إلى قمة السلطة، قاطفاً ثمرة العلاقات المحرمة التي كان أقامتها قبل ذلك بسنوات طويلة (أوائل 1976، كما يقول بعض التاريخيين في الحزب)،
ثم كان “الانقلاب” الكامل مع تولي أمين الجميل وريثاً لشقيقه بشير الذي رحل قبل الرئاسة، فإذا الحكم في لبنان يندفع في طريق الخطيئة إلى حد استقدام قوات حلف الأطلسي والتورط مع العدو في اتفاق 17 أيار 1983، مما جدد الحرب الأهلية وأعطاها أبعادها المطلقة عربياً ودولياً.
وكانت الخاتمة المنطقية: تسليم “الأمانة” إلى ميشال عون الذي تكفل بتدمير ما تبقى من الجمهورية، شعباً وأرضاً ومؤسسات.
لماذا هذا السرد “التاريخي”؟!
لأن حزب الكتائب، وبشخص جورج سعادة بالذات، مطالب بأن يعلن: هل هو ما زال الحزب القديم، أم إنه تغير بشكل يجعله صاحب الحق بدور في الحاضر والمستقبل؟!
ليس من العدل طبعاً أن يطالب حزب الكتائب (وجورج سعادة) وحده بتلاوة فعلي الندامة والاعتراف، وإعلان التوبة، فالكل خطاة ومذنبون ومقصرون أو قاصرون.
وليس من الإنصاف أن يحمّل جورج سعادة شخصياً وزر ما ارتكبه حزب الكتائب بقيادة آل الجميل على امتداد تاريخه الطويل، وبالذات عشية الحرب الأهلية وخلالها.
لكن الخطوة الأولى في تبرئة الذات وتمييزها هي مسؤولية جورج سعادة ومن معه في قيادة الكتائب ممن خرجوا من جلد آل الجميل ومن تصورهم لدور الحزب.
كذلك فإن جورج سعادة مطالب بأن يعلن خروج “حزبه” من حماة الحرب الأهلية.
ولعل الخطوة الأولى المطلوبة إشهار الطلاق مع “القوات اللبنانية” وإنهاء ازدواجية اللغة والشعار والمهمة وأسلوب العمل.
لم تعد “القوات” الذراع العسكري للحزب، وإنما صار الحزب الواجهة السياسية لذلك التنظيم العسكري الذي يفاخر بأنه جيش الطائفة والدولة البديلة.
لتكن “القوات” حزباً، ذلك شأنها، والملعب فسيح، ولكن أين الكتائب منها؟!
إن استمرار التماهي يلغي الكتائب، وقد يكون هذا أمراً طبيعياً ولكن الوضوح واجب، وإلا تحول جورج سعادة إلى مجرد “محلل” أو “مجحش” أو “تياس” لانتقال الإرث من بيار – بشير – أمين الجيمل إلى سمير جعجع.
ولعل أبرز دليل على اعتلال الحزب غياب جريدته “المركزية” وارتفاع صوت إذاعة “القوات” باسمه، وكذلك تلفزيونها.
والمفارقة إن “القوات” تستطيع أن تكون “الحزب” في أي وقت فتلغيه تماماً. وهو لا يستطيع أن يكونها أبداً لكنه لا يستطيع أيضاً أن يتنصل من تبعات “إنجازاتها” وآخرها موقفها من بيروت الكبرى التي وصل “عيد” الكتائب قبلها وربما على حسابها!
ولعل من حق جورج سعادة أن يعتبر اتفاق الطائف “مطهراً” يهيئه لدخول العمل السياسي من باب الاعتدال والانضواء في مشروع “عربي” لإقامة الجمهورية الجديدة،
لكن “القوات” صادرت هذا الإنجاز الكتائب ونسبته لنفسها، منذ القرار بالسفر إلى الطائف وحتى تأمين النصاب للتصويت على التعديلات الدستورية في المجلس النيابي ببيروت.
في أي حال فإن اتفاق الطائف إعلان نوايا، وهو قد يكون مقدمة للتغيير وللخروج من نفق الانعزال والعداء للعرب والعلاقات المحرمة مع العدو التي حبس آل الجميل الكتائب في قمقمها.
لكن هذا الاتفاق قد يكون مجرد ممالأة أو تراجع اضطراري أو انتهازية سياسية لقنص المواقع الممتازة في السلطة الجديدة، تجنباً لصدام غير مضمون النتائج، أو حركة التفاق على المناخ الجديد في انتظار فرصة للعودة.. إلى الينابيع!
وجورج سعادة لا يفعل حتى الآن غير محاولة تمييز نفسه عن الأموات من آل الجميل، فمتى تراه يبدأ بتمييز نفسه عن “الكتائبيين” الأحياء من آل جعجع ومن والاهم مستبدلاً بكفيا ببشري وأرز الرب فيها، وقد استعاره الشيخ بيار مع الرب شخصياً لخدمة العائلة في فترة من أحلك ما عرف تاريخ لبنان.