بتوقيت أميركي دقيق خرج “المجاهد الأكبر” الذي يتقن الفرنسية كأبنائها ولا يفهم الإنكليزية من الحكم بوصفه “شيخاً عاجزاً نال منه الخرف” ولم يعد بمقدوره أن يسوس نفسه فكيف بالبلاد وعبادها الذين يأخذهم الفقر من “الروم” فيعيدهم إلى الإسلام وإلى المغرب وإلى العرب، أي إلى أصولهم، وذلك ما اعتبر إنذاراً بخطر الثورة الحمراء!
كان لا بد أن يتدخل “الجنرال” المعد والمدخر لمثل هذا اليوم، فيتمم عملية التسلم والتسليم بالإجابة: “- آن لك أن ترتاح يا سيدي الرئيس وأن تنام بهدوء”!
ولعل الجنرال قد أنهى كلامه بتحية عسكرية تليق بالراحل الكبير، ولعله شفع التحية بقبلة ساخنة على اليد الباردة التي تحتاج إلى يد أخرى تخفضها إذا ما ارتفعت، وترفعها إذا ما تطلب إرضاء “الجماهير” رفع اليد بعلامة النصر!
أخيراً انتهى، إذن، حكم الميت للأحياء، حكم الماضي للحاضر والمستقبل،
الميت؟!
لا بد من سرد الحكاية:
فالحبيب بورقيبة الذي لا يغفل عن أمر، مهما صغر، أعد لكل شيء عدته، بما في ذلك الموت، وهكذا فقد ابتنى لنفسه ضريحه وفقاً لتصاميم اختارها بنفسه، ثم إنه كان يشرف مباشرة على البناء حتى أنجز، وبعد الضريح كان لا بد من الانتباه إلى تفاصيل الجنازة، موكبها وخط سيرها ومواقع المشاركين فيها، وصولاً على المراثي ومن وكيف وأين تقال.
سأل الحبيب عن أعظم الشعراء في تونس فذكر له اسمان، بعث بطلب الشاعرين، وأبلغهما برغبته في أن يسمع ما سيقولانه في رثائه!! وارتج على الرجلين، لكنه طمأنهما إلى أن الموت حق، وإنه إنما يستكمل استعداداته لمثل ذلك اليوم الذي يعرف أنه بعيد. واختلى الشاعران، كل بشيطانه، ثم جاءا إليه يحملان درتيهما، وجلس يستمع إليهما يقرآن بصوت متهدج بكائيتيهما.. وعندما فرغا انهال عليهما ضرباً وشتماً وصراخاً:” – أهذه قيمة المجاهد الأكبر، ايها الجاحدان للفضل؟! أهذا كل ما يقال في أنا الذي صنعت تونس والتونسيين؟!”
وبعد شفاعات وتضرعات وطلبات بالصفح رضي أن يسمح لهما بتكرار المحاولة التي قالا فيها إنها جاءت ناقصة لأن أحداً منهما لم يستطع أن يتصور تونس بلا بورقيبة!
انتهى، إذن، حكم الميت، حكم الماضي للحاضر والمستقبل، وجاء زين العابدين بن علي باسم “المستقبل” يحكم الحاضر والماضي: أليست الولايات المتحدة الأميركية هي المستقبل قياساً إلى فرنسا الماضي (والشريك الأضعف في الحاضر؟!)
جاء “الجنرال الأكبر” فأخرج “المجاهد الأكبر” في انقلاب أخرس، حتى لقد وصفه البعض بأنه “انقلاب سياحي” وتقدم الصفوف مستكملاً عدة السيطرة: فهو عسكري مؤهل ومدرب على “قيادة” الحزب الذي كان باستمرار مؤسسة شبه عسكرية، “والمدنيين” الذين قهروا طويلاً حتى صاروا يخضعون طوعاً وبغير محاولة للمقاومة،
ثم إنه يحمل اسماً مشبعاً بالنفحة الإسلامية إلى حد مقاربة أسماء أهل البيت، فماذا يريد “الخمينيون” أكثر من هذا؟!
وأخيراً فهو حقق المطلب الذي كان يتمنى الجميع أن يتحقق من دون أن يتجرأوا على الجهر حتى بالتمني فكيف بالعمل للوصول غليه؟!
من هنا إن أحداً لم يرفع صوته بالمعارضة أو الاعتراض بدءاً بزوجته (السابقة) وانتهاء بابنه الذي أثقله بالاسم ذاته توكيداً لنرجسيته: الحبيب بورقيبة – الابن!
زوجته؟!
لولا التعفف عن الخوض في مسائل “العرض” لسردنا من الحكايات من يندى لها الجبين خجلاً وشعوراً بالذلة والعار.
أمقدر علينا أن ندان بفسق الحاكمين والمتحكمين فينا، رجالاً ونساء، إضافة إلى إدانتنا بجرم الخضوع لديكتاتوريتهم وبطشهم وتزويرهم لتاريخنا واغتصابهم لأمانينا وأحلامنا السنية؟1
.. أما ابنه فكيفي أن نورد مثلاً واحداً وكما جاء على لسنان بورقيبة الأب نفسه في خطاب جماهيري نقلته أجهزة الإذاعة والتلفزيون صوتاً وصورة…
قال “المجاهد الأكبر” وهو يشير إلى ابنه الكهل الواقف إلى جانبه على المنصة: “أترون ولدي هذا ، ولدي الحبيب، إنهم يتقولون عليه ويروجون إنه ليس بابني، وهم يطعنون بهذا في رجولتي مستدلين على عجزي بأن لي خصية واحدة.. وهذا صحيح، فأنا بخصية واحدة، ولكن اسألوا أي طبيب فهو سيؤكد لكم ما قاله لي غيره من أنني أستطيع الإنجاب وأنا بخصية واحدة، وإن كارهي بورقيبة إنما يتقولون عليه وحديثهم حديث أفك كذلك الذي روجوه عن النبي العربي”!!
*استدراك: في وقت لاحق اتهم زوجته التي أطلق عليها لقباً لم تحظ بمثله امرأة هو لقب: “الماجدة”، بأنها كانت تخونه (وهي في الستين من عمرها)، فردت “الماجدة” باتهامه بأنه هو الخائن، وإنه برغم عجزه فهو متهتك وإن له أكثر من محظية وإنه حول قصوره ، وبالذات قصر قرطاج، إلى دور بغاء!!
** استدراك ثان: يروي المتصلون برئيس الوزراء الأسبق (المخلوع)، محمد مزالي أن بورقيبة قد اقتحم مجلس الوزراء، مرة، وهو في قمة انفعاله وهياجه وعلى لسانه عبارة واحدة بالفرنسية ظل يرددها جذلاً حتى صفق الوزراء جميعاً ابتهاجاً وتقديراً لقوة زعيمهم الخارقة… وكانت العبارة: “وصلت يا محمد، وصلت يا محمد، وصلت، واذهب فاسألها”!!
لو أردنا أن نحكي الفضائح الشخصية للعهد البورقيبي لاحتاج الأمر إلى مجلدات، فلنترك المهمة لغيرنا، ولنرجع إلى القراءة السياسية للحدث الذي يظل كبيراً برغم أنه لم يفاجئ أحداً لا داخل تونس ولا خارجها.
يبدأ التزوير مع بورقيبة من اللقب الذي أطلقه على نفسه “المجاهد الأكبر”،
ومتى كتب التاريخ الحقيقي للمغرب العربي ستظهر شخصية أخرى لهذا الرجل الذي خان الحركة الشعبية وخان الكفاح المسلح، أي الجهاد، الذي بدا موحداً ضد المستعمر الفرنسي على امتداد الأرض العربية من موريتانيا إلى حدود ليبيا، وكان الأصل فيه أن يشمل المغرب والجزائر وتونس فيوحدها عبر النضال المشترك.
لم يكن بورقيبة الخائن الوحيد، ولكنه أكثر من استفاد من بيع “الجهاد” بالحكم، ثم حكم أكثر من ثلاثين عاماً بلقب لم يستحقه أبداً، بل هو يستحق نقيضه تماماً.
بدلاً من الجهاد رفع بورقيبة شعار “خذ وطالب”، وبدلاً من وحدة المغرب العربي انفصل بورقيبة بتونس متخلياً عن رفاق “جهاده” في الجزائر والمغرب، وبدلاً من قتال فرنسا المستعمرة لإخراجها “فرنس” تونس فلم يعد مهماً بقاء جند الاحتلال، بل لعله وفر على المستعمر نفقات احتلاله!
والتزوير يدمغ “منجزات” بورقيبة جميعاً، من الألف إلى الياء:
تحت شعار العصرنة غرّب بورقيبة توس والتونسيين، كأنما لا يمكنهم أن يدخلوا العصر بإسلامهم وعروبتهم وسمرة بشرتهم،
… مع أن الفرنسي دخل العصر وهو بعد كاثوليكي وفرنسي وأزرق العينين!
كذلك نجح الأرثوذكسي في دخول العصر، والبروتستانتي وحتى الملحد، إذا ما تذكرنا المعسكر الاشتراكي … كلهم تعصرنوا وهم على أرضهم وعلى دينهم إلا العرب، في تونس وخارجها، فهم يرون شرط الانتماء إلى العصر في الهجرة من جلودهم وجذورهم ومعتقداتهم وأسماء آبائهم والأمهات!
وتحت شعار الأخذ بروح العصر، والعصر غربي، فقد فرض على شعب تونس أن يتحول إلى مجاميع من البشر مسلوبة الإرادة، مهجنة، بلا هوية، مضيعة بلا قضية، تعاني تمزقاً موجعاً بين الانتماء إلى ذاتها، إلى أرضها وتاريخها وبين الانتماء إلى الحزب والدولة والمجاهد الأكبر… والغرب.
ترك لهم، فقط، أن يخدموا السياح بالمجان، وأن يبيعوهم كل شيء، كل شيء ليحصلوا على لقمة الخبز!
وتحت شعار “التقدم الاجتماعي” أخرج بورقيبة التونسيين قسراً، وليس بالرغبة أو بقوة التطور، من تقاليدهم وعاداتهم وحتى من فروض دينهم، فصاروا الشيء ونقيضه: متفرنجين إلى حد اللغط بحرف “الراء”، ومسلمين حتى التعصب إذا ما خلوا إلى أنفسهم واطمأنوا إلى غياب الرقيب!
وما كان ممكناً نقل جامعة الدول العربية إلى تونس إلا بعدما بطلت أن تكون جامعة، وبطلت أن تكون عربية، وصارت شيئاً من الماضي لا يجرؤ أحد على دفنه ولا يريد له أحد أن يستمر حياً في الحاضر وفاعلاً ومؤثراً في المستقبل.
كذلك ما كان ممكناً أن تقبل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس إلا بعدما صار بورقيبة معلماً مسلماً بعبقريته، ونموذجاً في النضال يقتدى به، وصاحب رؤيا غالطها لفترة أو تعامى عنها العرب والفلسطينيون منهم بخاصة، فكان عليهم أن يدفعوا الثمن إضاعة للمستقبل بعدما ضيعوا الماضي.
ومن أسف أن كثيرين من البورقيبيين كانوا يرون أنفسهم “متطرفين” قياساً إلى بعض قيادات العمل الوطني الفلسطيني من القائلين بالكفاح المسلح والمحتفظين برموزه أقنعة لوجوههم وممارساتهم.
لقد أرسلت الجامعة العربية لتدفن في تونس باعتبارها مقبرة لكل ما يذكر بحالة النهوض العربية: مقبرة للعروبة، ومقبرة لفلسطين ومقبرة للثورة والكفاح المسلح،
ففي تونس، كما في أقطار عربية أخرى مع الأسف، صارت العروبة وجهة نظر، صار العرب حزباً من الأحزاب، ليس أقواها ولا هو أعظمها حضوراً في أي حال، بل هو في الغالب الأعم حزب أقلية، قد تكون من بين “النخبة” ولكنها ليست من قوى الحل والربط، وليست مطلقاً في مركز القرار.
بل إن “العرب” في تونس خارج الحزب الحاكم الذي حل منذ فترة بعيدة محل الشعب، ثم إنهم ليسوا في المعارضة، إنهم إما حالمون وإما “عملاء” لهذا النظام “المشرقي”، أو ذاك، للقذافي مرة وللبعث مرات ، ولحركة القوميين العرب، من قبل ، وللمخابرات المصرية على امتداد الستينات (تجنباً لذكر عبد الناصر بالاسم).
وعندما يقدم إليك الصديق التونسي أحد القابضين على جمر إيمانهم بأيديهم فإنه يهتف بقوة: “إنه فلان.. هذا عربي”. فكلمة “عربي” يمكن أن تكون صفة مميزة وأداة تعريف.
حسناً، لقد رُحّل أخيراً، الطاغية فهل تعود تونس؟!
لقد استبق الجنرال الثورة ، وتقدم “الحل الأميركي” على الانتفاضة التي كانت تدمغ بالأصولية حتى تنكر عليها أصالة تعبيرها عن وجدان الشعب العربي في تونس،
فهل ينجح زين العابدين بن علي في إبعاد شبح الحرب الأهلية، عن تونس وعن محيطها في المغرب العربي؟!
لقد كان الجميع، في الداخل والخارج، ينتظرون سقوط الشيخ الخرف”، وقد أعدوا خطتهم لتونس ما بعد بورقيبة، فهل تكفي الرسائل المطمئنة التي بثها “الرجل الهادئ القوي” في كل اتجاه، بدءاً بالعقيد معمر القذافي وصولاً إلى الخميني في البعيد، بغير أن يغفل فرنسا بطبيعة الحال، أو مصر، أو المغرب الذي عمل فيه سنوات، أو الجزائر التي يهمها – أكثر ما يهمها – ألا تذهب تونس إلى غيرها إذا ما قررت في أي يوم أن تذهب إلى مكان ما؟!
من المبكر الحكم على بن علي ومن معه، ومن خلفه وماذا سيكون من أمره،
لكن ما لا بد من تسجيله أن صفحة سوداء، مخجلة، من تاريخ تونس وتاريخ الأمة العربية قد طويت بهدوء نموذجي..
إن العديد من حكامنا يشعروننا بالعار، بالضعة، بالضآلة بالتفاهة لمجرد كوننا رعاياهم.
وصحيح أن بورقيبة أسقط بفعل فاعل وليس بإرادة شعبه، لكن هذه ليست إلا البداية التي سيكون لها ما بعدها.
ولعل سقوطه الرمزي عشية انعقاد القمة العربية رسالة مشفرة إلى أقران بورقيبة وأخوانه المحتشدين في عمان مفادها: لقد سترنا لكم واحدة من عوراتكم، فداروا أنتم ما تبقى.
ولا مجال لعدم الفهم او للتجاهل، فثمة “جنرال” جاهز للحركة حيثما يصبح الحكم عبئاً على القوة التي تحميه وتضمن له الاستمرارز
وزين العابدين بن علي ليس إلا الأول في قائمة طويلة على ما يبدو، وبورقيبة لن يكون الأخير الذي أعد ضريحه واستمع إلى قصائد رثائه من قبل أن يجيء الأمر.. بموته الهادئ؟
