… وأخيراً جدة؟!
لكننا كنا وما زلنا نطلب بيروت! وبيروت بعيدة بعد، ورهينة بعد… مدافع الجنرال دمرتها في ظل الادعاء بتحريرها. و”الوثيقة العربية للوفاق الوطني في لبنان” وعد بتحريرها من الجنرال والحرب، ولكنه يفتقر إلى المدافعن ثم إنه مؤجل التنفيذ، إلى أن يشاء الله غير ذلك، والله على كل شيء قدير!
بيروت، بيروت، بيروت… لا مثيل لها بين العواصم ولا بديل عنها، في السلم والحرب، في الأزمة وعند الحديث عن الحل، والأهم لا بديل عنها لهؤلاء الذين قصدوا الطائف باعتبارها أقصر الطرق بين الأشرفية وساحة النجمة أو بين البسطة وقصر منصور!
هبطنا من شاهق، كأنما شالنا الرخ من علو ألف وخمسمائة متر وحطنا عند الشاطئ الأزرق للبحر الأحمر. دارت بنا لاسيارات عبر تلك الطرق الحلزونية التي تخترق القمم بالالتفاف عليها مراراً وتكراراً، حتى داخت ودخنا فيها فلم نستفق إلا وقد ملأت خياشيمنا رائحة الملح واليود تصاحبها رطوبة كثيفة تثقل عليك ويضيق بها صدرك الضيق أصلاً بما يصلك من أخبار الحرب الجديدة للجنرال ضد “الهيئة الشرعية” الوحيدة المتبقية، وضد مشروع الحل العربي كفرصة أخيرة من أجل الإنقاذ في لبنان،
… وجدةغير الطائف. لقد وصل البرلمانيون اللبنانيون الطائف مع الخريف، وكان الملك قد رحل مع الصيف، أخلوا لهم المدينة وقصر المؤتمرات. عززوهم، كرموهم ودللوهم كما الطفل المريض. داووا عليلهم، هدأوا روع القلق من بينهم، استمعوا إلى من في صدره كلام حبيس لا يقال إلا، لأذن مفتوحة فيغرفة مغلقة بعيداً عن بيروت، انتهت مدة التاشيرات فمدوها، خلص الكلام فاستعادوه. حوم الملل حول القصر فطاردته الشرطة العسكرية حتى عاد من حيث كان. أما الشبح المفزع فقد تولاه الأمير سعود الفيصل شخصياً مستعيناً بخبرة الأخضر الإبراهيمي ومبدئيه سيد أحمد غزالي وحيدة الفيلالي المغربي وترفعه عن مشاكل المتخلفين العرب.
ثلاثة وعشرون يوماً أقصرها بطول شهر رمضان على صائم. كلام، كلام، ولا شيء غير الكلام، كلام في القاعة، كلام في الردهات، كلام في الكواليس، كلام أمام النوافير الثرثارة. كلام في الهاتف المفتوح مع القارات الخمس. كلام للاذاعات، للصحف، لمحطات التلفزيون، كلام بالعربية، كلام بالفرنسية، كلام بالإنكليزية و… كلام بالخازني الكسرواني الفصيح!
والملك ينتظر في جدة، يصغي وينتظر، يسمع إلى شروح وتفسيرات وينتظر. يؤخر عودته إلى الرياض عبر المدينة المنورة، كما عادته كل عام وينتظر، لم يستعجلهم ولم يلح عليهم بأن “يحرروه” من انتظارهم… حتى جاءته البشائر مساء الأحد: لقد أقروا الوثيقة بعد شيء من التعديل، والحمد لله، وهم بالتصرف!
واليوم سيلتقيهم إلى مائدته. سيشكرهم كثيراً، وسيحيي شجاعتهم ووطنيتهم وحرصهم على الوفاق، مؤكداً حرص الملك والمملكة واللجنة العربية العليا على الاستمرار في رعاية مشروع الحل العربي لماساة لبنان. سيطمئنهم كثيراً، بالجملة والمفرق، إلى مستقبل السيادة والاستقلال، وسيجدد لهم تأكيد الحرص على لبنان واللبنانيين وفي الطليعة منهم هؤلاء “النواب” الذين صاروا “طليعة اقتحام” باسم الشرعية ولحسابها.
ولسوف يقول فيهم الملك كلاماً جميلاً: كنتم عند حسن الظن. وثقنا بكم فكنتم أهلاً للثقة. لم تخنثوا العهد. لم تضعفوا ولم تهنوا. ولسوف ترد التحية بأحسن منها، والحسنة بعشرة أمثالها… سنكون عند حسن ظنكم وأكثر، ويمكن لكم أن تعتمدوا علينا في الخاص والعام، في الحياة وبعد الممات وإلى ولد الولد. أنتم منا ولنا ونحن لكم الأهل والموئل والمغيث.
ما أطيب من لذائذ المواد الملكية إلا التطمينات الملكية. وها هو المتشككون في المناقب العربية يتحققون من استمرارها في أحفاد أهل القدوة من الغابرين: إكبرام الوفادة، حسن الضيافة، إغاثة الملهوف، المبادرة إلى نجدة المظلوم وإعانة المغبون وتطمين الخائف وإقالة عثرات العاثرين!
جدة… ودار الضيافة الجديدة قصر المؤتمرات الذي كان من قبل فندقاً فاشترته المراسم الملكية وحصرت نعمة الإقامة فيه، بمواجهة “قصر السلام” الملكي، على كبار الزوار.
أما “الملحق” من الصحافيين ففي فندق قريب، حولت إحدى قاعاته الكثيرة، وبسرعة فائقة، إلى مركز إعلامي حديث.
لقد تراكمت الخبرات، وترسخت تقاليد التعامل مع المؤتمرات، وتأصلت كفاءة الكادرات المعنية بحيث صار كل يعرف موقعه وطبيعة مهمته والمطلوب منه فيمارس دوره غيباً وبلا مشكلات تقنية أو إشكالات إدارية ظاهرة. الخارجية غير الاعلام، والمراسم غير الأمن، والكل وحدة، لكن الاختصاص يفرض نفسه.
… والآية معكوسة، في الظاهر: الطائف للشغل وجدة للاحتفال الملكي الكبير؟!
الملكي ؟ إذن فلتتحرك الأقمار الصناعية، ولتنقل بشائر النصر بالصوت والصورة إلى أربح رياح الأرض! كانوا يأخذون على المملكة إنها مترددة، بل وجبانة، تفضل أن تبتعد عن الشر وتغني له. وكانوا يتقولون عليها: “تحتانية”، “كأن بها حياء فلا تزور إلا في الظلم”… وتفضل الهمس، فإن اضطرت إلى الإفصاح أشارت بحركة من يدها، أو من رأسها، أو من طرف عينها، فإن أحرجت أخرجت من تحت العباءة ما يغني عن بليغ البيان!
ما رأي هؤلاء المتقولين والمتشككين الآن، والمملكة تتصدى لاعقد المشكلات العربية محاولة حلها!!
المملكة اليوم غيرها بالأمس. إنها ترد على المهاجمين حتى وإن كانوا من ثوار الجمهورية الإسلامية، وتنفذ الإعدام بمعكري الأمن وزارعي المتفجرات ولو كانوا من التابعية الكويتية، وتستنفر كل أصدقائها في العالم الغسلامي، وما أكثرهم، لينصروها في”إقامة الحد” على مهددي أمن الحجاج والمملكة، فيأتيها التأييد من كل فج عميق، بالبرق والصوت الحي، بالتصريحات والبيانات والمذكرات مرئية ومسموعة ولها رنين!
ثم ها هي تستضيف بعض جوانب الأزمة اللبنانية تهدهدها وتلاغيها وتناغيها. توفد الموفدين وتبعث بالرسائل، سرية وعلنية وتستدعي السفراء وتطلب منهم مواقف تأييد عملية. يشاكسها هذا الطرف أو ذاك فلا توقف تحركها، يهاجمها متطرف فتواصل نشاطها، يستفزها ميشال عون فتبلع الرد المهين ولا تنفض يدها، ينتقدها نبيه بري، يغمز من قناتها وليد جنبلاط، يشتمها حزب الله، فتكمل سعيها غير هيابة ولا وجلة…
من أين جاءت الشجاعة إلى مملكة الحذر والريبة والهمس الخطير؟!
ما علينا، ذلك حديث يوم آخر، فلنعد إلى البرلمانيين اللبنانيين بعدما أرفض مؤتمرهم الناجم ونالوا أول يوم إجازة، امضوا ربعه في الطريق إلى جده، وربعه الثاني في انتظار وصول الحقائق القادمة خلفهم من الطائف، وما تبقى من ساعات الصحو في حديث “الجنرال” وتهديداته وموعد العودة إلى بيروت.
والبرلمانيون تصرفوا اليوم كالتلامذة الشطار الذين نجحوا في الامتحان، وحق لهم أن يمتعوا الطرف بمفاتن جدة وأسواقها التي تحتوي كل جميل وطريف ولذيذ وكل شيق ومفيد ومثير للبهجة والشبق إلى الاقتناء.
الدولارات موفورة، ولله الحمد، لكن البضائع المشتهاة أكثر وأغلى من أن تكفي زوادة الرحلة، خصوصاً وإن المحطة الأخيرة غير محددة تماماً بعد، في انتظار أخبار بيروت.
وأخبار بيروت مقلقة، لكن بعض ما يريح السادة البرلمانيين إن “الكبار” قد تكفلوا باستئصال أسباب القلق.. على الأقل بالمعنى الشخصي، وهذه هي بيانات التأييد تتهاطل وأولها وأهمها وأكثرها تهدئة للمخاوف هذا الآتي من واشنطن يحيي شجاعتهم!
لقد جاءوا متهمين في وطنيتهم، وها هم يعودون بشهادات في الوطنية لا يأتيها الباطل من خلفها أو من الأمام، فمصدر الشهادة الطائف والتصديق من واشنطن وشهود الحال الجزائر والمغرب، والمرجع من قبل ومن بعد دمشق التي رحبت وقالت فيهم كلاماً جميلاً.
لكن الجنرال في بعبدا، بعد.. يجمع بحجة الاستشارة، ويطلق التظاهرات بالاستثارة،
فمن يخرج الجنرال لندخل؟!
لا بد من خروج ليكون دخول. لا بد من سقوط ليكون ارتفاع. لا بد من أن تصير الكلمة سيفاً. والوثيقة قراراً، و”المجلس” أهم من وزارة الدفاع ودبابات الجيش ومدافعه الكثيرة..
لا بد، لا بد، لا بد،
وفي الانتظار يحلم البرلمانيون ببيروت، مع إن الحلم الذي بدأ في الطائف يتكامل الآن في جدة. وجدة ولادة مخصاب للأحلام.
وفي الانتظار يقف بعض هؤلاء الحالمين على الشاطئ المفروش بالنور، ويغنون بشيء من الشجن: “ودي يا بحر ودي، سلامي لبيت جدي”.
والبحر حمال سلام بقدر ما جده ولادة أحلام!