واحدة من المسائل الأساسية في العمل السياسي العربي تتمثل في الموقف من مصر، تأييداً ومعارضة.
فدائماً هناك إشكالات، ومحاذير ومخاطر من أن ينقلب “التأييد لخط سياسي محدد الأهداف والشعارات إلى موالاة لشخص الحاكم، أو لأجهزة سلطته، وأن تتقلب المعارضة للمنحى أو الاتجاه أو الممارسة السياسية للحاكم إلى عداء لمصر ذاتها.
وبالطبع كان هناك من يعمل، داخل مصر، لتحويل التأييد السياسي إلى موالاة شخصية للحاكم أو للأجهزة، ولتحويل المعارضة السياسية إلى حرب من الخارج ضد مصر وشعبها.
حول هذه المسألة، كتب هذا المقال لمجلة “روز اليوسف” القاهرية التي تلعب اليوم دوراً ملحوظاً في تنشيط الحوار الصحي حول قضايا النضال العربي الراهنة، ودور مصر الطليعي والطبيعي فيها.
وتوسيعاً لدائرة الحوار الضروري حول هذه المسألة المهمة ننقل هذا المقال الذي نشرته “روز اليوم” في عددها الأخير.
“ليس أقسى على نفس العربي خارج مصر من نقد مصر!
فمصر في نظر العرب من غير مواطنيها أقرب إلى الرمز منها إلى الكيان، وإلى الفكرة منها إلى الدولة، وإلى المبادئ منها إلى الأجهزة والمؤسسات والممارسات السياسية.
ولقد عانى الوحدويون والتقدميون، وإجمالاً الثوريون العرب الأمرين من آثار هذه الازدواجية عندما فرضت عليهم ضرورات العمل السياسي التعامل اليومي مع “الدولة المصرية” باعتبارها التجسيد المادي لمبادئ ثورة 23 يوليا، وأداتها وقناة الاتصال الوحيدة في غياب التنظيم السياسي القائد.
كان الوحدوي والثوري العربي يصنف في قطره “عميلاً لمصر”، ويدمغ بتهمة الاتصال “بالأجهزة”. وتجرد علاقته بمصر من مبدئيتها ومضمونها الوحدوي وحتى من طبيعتها السياسية لتصور وكأنها عملية “تخابر مع جهات أجنبية” ممثلة بالمخابرات لا فرق بين أن تكون “حربية” أو “عامة” أو تحمل اسم “مكتب الشؤون العربية”.
على أن المناضل العربي كان يتجاوز هذا كله في علاقته بمصر. فيحارب داخل قطره مروجي الاتهام الظالم من انفصاليين ورجعيين وعملاء للاستعمار، ويحارب داخل مصر من أجل بناء العلاقة السياسية لتستند إلى تنظيمات جماهيرية حقيقية وتوفر بالتالي أقنية اتصال شرعية ومتناسبة مع شرف المهمة الثورية المكلفة بها.
وهكذا كان على المناضل العربي أن يقاتل، وباستمرار، على ساحتين في آن معاً من أجل تأكيد العلاقة مع مصر وتوطيدها: على ساحة قطره حيث يمكن أن يتهم في ولائه “الوطني” ويحاسب على “مصريته”، ثم على ساحة مصر حيث يمكن أن يتهم بالتخريب إذا صنف من “العناصر الأجنبية المندسة” أو يتهم بالتآمر و”التدخل في الشؤون الداخلية” لحساب جهات خارجية إذا حوسب على انتمائه لحزب أو لتيار قومي.
هذا بعد ثورة 23 يوليو، أما قبلها فكان الأمر أشد تعقيداً ، ذلك أن مصر – الدولة، كانت غائبة تماماً وربما عازفة عن لعب دورها الطبيعي في قيادة حركة النضال العربي المعاصر.
ومع الثورة لم تسقط فقط “مصر المصرية” المنعزلة، المنطوية على ذاتها، المتوجهة أساساً نحو الغرب وإن خالج حاكميها شيء من الحنين إلى الخلافة باعتبارها تشريفاً لا تكليفاً، وإنما سقط أيضاً على امتداد الوطن العربي ذلك التحفظ الموضوعي في العلاقة مع القيادة السياسية في مصر المتناقضة بل والمعادية لأي توجه وحدوي.
وبات ممكناً، في ظل القيادة التاريخية لجمال عبد الناصر، أن تتعرف بمصر، وأخيراً، على ذاتها وأن تؤكد انتماءها القومي، وأن يبرز على السطح ما كان مضمراً في الوجدان العربي من أن لا عروبة ولا وحدة إلا بمصر ومعها أساساً، ولا اشتراكية إلا بمصر، ولا تحرر من قوى القهر الاستعماري والصهيونية والرجعية إلا بمصروتحت قيادة مصر.
في ظل هذه الحقيقة الأساسية والثابتة يمكن مناقشة موقف الوحدويين العرب من مصر الآن.
إنهم لا يجادلونها في حق القيادة.
ولكنهم مضطرون للتصدي للمحاولات التي تبذلها بعض الاتجاهات اليمينية والانعزالية داخل مصر للتنصل من تبعات هذا الدور بذرائع مختلفة، منها أن مصر نالت ما يكفيها من العرب، وإن مصر لم تجن من علاقاتها العربية إلا التعب. وإن العرب يقاتلون حتى آخر جندي مصري.. إلى آخر هذه التقولات المعادية لمصر أساساً، وبالتالي للنضال الوحدوي وللثورة العربية.
كذلك فإن الوحدويين العرب لا يجادلون مصر في حقها بأن تعامل “معاملة القطر الأكثر رعاية”.
من هنا إنهم يراعون ألا يبدو كلامهم عن مصر “تدخلاً خارجياً” وإلا يكتسب اعتراضهم على بعض الممارسات السياسية فيها شكل “الوعظ” وكأنهم في موقع المعلم وهي التلميذة القاصرة والمقصرة.
لكنهم يرون لحق القيادة وجهاً آخر يعنيهم مباشرة.
فمع تسليمهم بقيادة مصر يعطون أنفسهم حقوق المواطن المصري على قيادته. وأبسط هذه الحقوق حتى مناقشتها في تصرفها في القضايا المصيرية.
فالعرب ليسوا فقط مصدر متاعب لمصر.
إنهم أيضاً من صانعي مجدها العظيم، ومن بناة سمعتها العالمية.
والعلاقة جدلية تماماً: لا عروبة بلا مصر ولا مصر بلا عروبة.
وأبرز ما تؤكده دروس التاريخ أن مصر في اللحظة التي تتخلى فيها أو تجبر على التخلي عن دورها القيادي العربي، تتحول إلى مستعمرة أو دولة مملوكية.
ولا تعارض إطلاقاً في مصر كما في غيرها من الأقطار العربية، بين الوطنية والقومية وهل تعنى هذه أو تلك شيئاً آخر غير إرادة التحرر من السيطرة الاستعمارية بمختلف أشكالها، وبناء المستقبل الأفضل لجماهير الشعب العربي في مصر؟
إنها معركة واحدة على طريق المصير الواحد، وليس من حق أي “مصري” أن يمنعني من المشاركة فيها بجهدي وبقناعاتي، تماماً كما أنه ليس من حقي أن أمنع أي “مصري” من الاهتمام بشؤون لبنان ومن مناقشة ما يجري فيه بمنظور قومي.
إن الذي قبل العربي “عميلاً لمصر” ورحب به أشد ترحيب في وقت مضى هو الذي ينكر الآن على العربي حقه فيأن يكون “مصرياً”، بمعنى الانتماء القومي الواحد والإيمان بالمصير الواحد.
إن الذي ينكر علي حقي في نقد ما أراه خطأ أو انحرافاً أو مصدر خطر على سلامة مصر – وبالتالي على سلامة الأمة العربية – متآمر على مصر قبل أية جهة أخرى.
إن الذي يقبلني ويرحب بي “كأجنبي” أو “كسائح” وييرفضني كمعني ومهتم لا يمكن أن يكون حريصاً على مصر، أي مصر، مصر المصرية، أو مصر العربية.
واعنذروني إن أنا اعتبرت أن مكاني الطبيعي في مصر هو بيوت الناس في مصر وأرض مصر وضمير مصر وانتماء مصر، وليس فنادق مصر والشقق المفروشة وكباريهات شارع الهرم.
ومن موقعي في داخل مصر أعطي نفسي حق نقد ما أراه خطأ في سياسة مصر، بمنطلقات مصرية، وحرصاً بالأساس على مصر.
فبمصر نبقى ونتقدم ونحقق أهدافنا العظيمة في الحرية والاشتراكية والوحدة، وبلا مصر نضيع ونضيع كل شيء.
وهكذا ترون إننا – بالأنانية – ندافع عن مصر ونحميها.. بنقدها متى لزم النقد، أما المتآمرون في الداخل والخارج، فهم الصامتون، وكذلك أولئك الذين لا يرون ما ينتقدونه إلا أسباب وجود مصر وعظمتها ومجدها وحقها في القيادة: أي ثورة 23 يوليو والناصرية والاشتراكية والوحدة”.