من أجل مهرجان خطابي استنفرت الدولة قواتها المسلحة، وملأت الطرقات حواجز مصفحة يستوقف جنودها المواطنين ليسألوهم: .. وكيف تجيء، أنت البعلبكي أو الطرابلسي أو حتى الصيداوي إلى صور؟ وما شأنك أنت بالجنوب وما يجري فيه؟
على طريق الجنوب يتم تصنيف المواطنين تصنيفاً جديداً يلغي الوطن تماماً:
فالشمالي شمالي أولاً وأخيراً، وحدود مواطنيته تنتهي عند جسر المدفون!
والبقاعي بقاعي تسقط حقوق مواطنيته بعد مخفر ضهرالبيدر!
والجبلي مواطن طالما “استقر” داخل دائرة مقفلة حدودها نهر الأولي جنوباً ونهر البترون شمالاًّ!
… أما جنود العدو الإسرائيلي فلا يجدون، عادة، من يعترضهم على أي طريق جاءوا: براً وبحراً وجواً!
من أجل مهرجان خطابي تفرض على البلاد حالة نفسية مفزعة، أين منها تأثيرات حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية، ولا تسمع – كيفما التفت – غير همسات المتخوفين ودعواتهم الصالحات: الله يستر، يا رب تلطف بعبيدك، اللهم اجعل هذا النهار ينتهي على خير!
… كأنما ينقص المواطن في الجنوب مزيداً من حكايات الرعب أو من فصوله، أو كأنه في ترف من الأمن المستتب وهناة الحياة الرخية!
والناس مقتلعون من أرضهم، ينتشرون هائمين على وجوههم فوق كل طريق، مع أول شائعة تنطلق عن قرب وقوع الاحتلال الذي يعايشهم ويعايشونه كما القدر المؤجل… إلى حين!
… وعيونهم تتجه، كل مساء، إلى المستعمرات الإسرائيلية القريبة، تطلب شيئاً من الأمن المفتقد في أنوارها، ذلك أنه إذا انطفأت هذه الأنوار كان معنى ذلك أن الغضب قادم إليهم بجنهم الموت والتدمير!
من أجل مهرجان خطابي تنشطر الضحية شطرين، وقد يقتتل الشطران، وليس إلا بعد فوات الأوان ينتبه كلاهما إلى أن النتيجة اليتيمة لكل هذا العبث هي تزايد خطورة النزيف!
… بينما الطائرات العدوة تغطي بهديرها على أصوات الجميع، مؤيدين ومعترضين، وهي تتجه لترمي بالموت المقاتلين فوق قمة جبل الشيخ، وعلى هضاب الجولان، من أجل شرف الأمة العربية، ومن أجل كرامة الإنسان العربي في كل أرض… وتأكيداً في كل اللبنانات المتناثرة بين الناقورة والنهر الكبير!
وإذا كانت دولتنا العلية قد ألغت، عملياً، الوطن، فالذي نرجوه ونتمناه هو ألا نساهم نحن – ضحاياها – في تكريس هذا الإلغاء بأن نغرق في العصبيات فننسى طوابير جند الاحتلال وهي تخترق جسدنا مطاردة إرادة القتال فينا.
فبتلك الإرادة وحدها نستعيد حقنا بالمواطنة، وحقنا بالوطن…