الدعوة ليست اعترافاً، خصوصاً إذا ما صدرت عن ملك تعود أن يهب لنجدة المستجير به، كائناً من كان، وأن يطعم الجائع ويسقي العطاش ويغيث الملهوف ولا يرد سائلاً، بدليل إن شعبنا في المغرب الأقصى لا يعرف الحاجة أو العوز ويعيش منعماً بل مترفاً من حول القصور الملكية الموزعة على أرض المملكة الشريفية جميعاً وعلى أيام السنة جميعاً بالعدل والقسطاس، وكذلك من حول غابات الصيد الملكية والمزارع الملكية النموذجية الخ…
واللقاء ليس صلحاً، خصوصاً إذا ما تم في صر منعزل يقوم شاهقاً وسط غابات الأرز الدائمة الخضرة في منطقة جبلية منعزلة في الأطلس، وبين ملك هو بطبعه وبطبيعة موقعه كخليفة فوق الخصومات والنزاعات والمسائل العارضة (كفلسطين)، وبين رئيس ضعيف لحكومة ضعيفة في دولة صغرى كإسرائيل… فلا الأرض المحتلة من أراضي أمير المؤمنين، حفظه الله، ولا أصحابها فوضوه بشأنها مع علم جلالته بأنهم لا يرغبون في الحرب ولا يقدرون عليها ويطلبونها سلماً فلا تعطى لهم كلها أو بعضها أو بعض البعض!
والمباحثات ليست بالضرورة تفاوضاً… فأين هو “الحرام” في أن تعرض مقررات قمة فاس على شمعون بيريز؟! وأين هو “الخرق الفاضح” لمقررات القمم العربية، ولماذا هذا التباكي الكاذب على الشرف المسفوح لجامعة الدول العربية وهي لما تمس من قريب أو بعيد، بدليل إن القيم على حمايتها وصيانة عذريتها الشاذلي القليبي لم يفتح فمه بكلمة اعتراض أو احتجاج أو همسة استيضاح وهو الذي يملأ الدنيا صراخاً كلما تساءل جاهل عن فاعلية الجامعة وهل بلغت مرحلة الشيخوخة والعجز أم لا؟!
(استدراك: فضلنا تجاهل ما صدر عن مكتب الجامعة في باريس لأنه موجه أصلاً إلى الأعاجم ممن لا يعرفون العرب أو العربية أو علاقة فلسطين والفلسطينيين بالأمة ذاتها التي ينتمي إليها الحسن الثاني والشاذلي وحمادي الصيد!).
… ثم إن اللقاء ليس من تدمبير مدبر، فأمير المؤمنين كسلفه الصالح “الرئيس المؤمن” مستغن بنفسه وبحقه الإلهي عن بقية الخلق، ولذا فهو لم يستشر أحداً من زملائه وأقرانه الميامين الملوك والسلاطين والشيوخ والقادة التاريخيين، وعلى هذا فهو يتحمل مسؤولية “النزوة الملكية” بالمطلق، نجاحها – إن نجحت – لغيره وله أجران، وفشلها عليه وحده وله أجر واحد… وماذا بعد هذا من شهامة وعلو نفس؟!
كذلك فاللقاء لم ينجح … فعلام، إذن، اللوم، ولماذا التطاول على الذات الملكية واجتهادها؟!
كل ما في الأمر إن جلالته، حفظه الله، كان يريد أن يقطع الشك باليقين فيتحقق بنفسه من أن الإسرائيليين تقصدوا عامدين متعمدين أن يأخذوا فلسطين عنوة ويشردوا شعبها، وإنهم بقصد مقصود احتلوا ما احتلوه من الأراضي العريبة خارج حدود فلسطين، وإنهم عن سابق تدبير وتصميم لا يقبلون بمنظمة التحرير الفلسطينية طرفاً أو شريكاً لطرف أو لبعض طرف داخل بعض الأطراف!! ويبدو أنه استوثق، رعاه الله، من أن القادة الإسرائيليين جميعاً، وبمن فيهم “رجل السلام” شمعون بيريز ليسوا على استعداد لسماع كلمة “المنظمة”، ولا هم على استعداد لأن ينسحبوا من أي شبر من الأراضي العربية التي احتلتها جيوشهم في حروبهم المفتوحة ضد العرب منذ 1948 وحتى اليوم، مروراً بـ 1967 و1973 وأخيراً وليس آخراً حرب 1982!!
فلما استوثق بنفسه وقطع الشك باليقين أوقف المحادثات بالسرعة الأقصى (10 ساعات طويلة على امتداد يومين كاملين وعبر ثلاث لجان عمل مشتركة ، هذا غير التمهيدات والايضاحات الأولية للمواقف التي لا بد سبقت اللقاء)!
الآن يمكن القول إن جلالته بات على علم بحقيقة الموقف الإسرائيلي.
كما إن شمعون بيريز لا يستطيع الادعاء بعد اليوم بأنه لا يعرف ما يكفي عن مقررات قمة فاس وكل ما تفرع عنها… خصوصاً وإنه عرف فاس ذاتها، ومعها مكناس وإيفران وما بينها، وما أكثر ما بينها!
ولعل شمعون بيريز قد وقف في الطريق بين فاس ومكناس متأملاً ذلك النصب التذكاري للمسجد الأقصى وهو قد أقيم للتوكيد على اهتمام “ظل الله على الأرض” الفائق بتحرير الأرض المقدسة بدليل إن رئاسة لجنة القدس معقودة اللواء لجلالته وليس إلا له!
للمناسبة، ومن قبيل تداعي الأفكار ليس ألا نستذكر واقعة بسيطة: في خريف 1974، وغداة اختتام قمة الرباط التي أقر فيها إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين، وقف الصحافيون الأجانب مذهولين وهم يرون جموع المغاربة المحتشدين حول قاعة كان ياسر عرفات يعقد فيها مؤتمراً صحافياً، ينتظمون في طوابير طويلة بالآلاف انتظاراً لخروجه، فلما خرج لم يهتفوا ولم يصفقوا بل تزاحموا للتبرك بلمسه وهم يبكون، وقال قائلهم بصوت ناحب: “خذنا معك نقاتل! عار علينا أن نعيش والقدس محتلة! نحن فداء المسجد الأقصى والصخرة المشرفة! الجهاد الجهاد يا أبا عمار”!
وكالعادة اكتفى الرجل المعتمر الكوفية برفع يده بشارة النصر، ثم دلف إلى السيارة الأميركية المصفحة، وعوت دراجات الحرس وصفارات سيارات الشرطة والاطفائية لتبعد عن طريقه أبناء السبيل الآتين للذهاب إلى القدس!
من قبيل تداعي الأفكار أيضاً نستذكر، للمرة المليون، واقعة لن ننساها ولن ينساها شعبنا في المغرب:
ففي أوائل الستينات، وفي عهد السلطان محمد الخامس، والد الحسن، الذي خلعه الأجنبي وأعادته إرادة شعبه العظيم المعززة بإرادة أمته المجيدة، جاء جمال عبد الناصر في أول زيارة له إلى المغرب. جاء بحراً، على اليخت “الحرية” ، والمرسى الدار البيضاء. وكالعادة، أيامذاك، بدأت الملايين تحتشد قبل أيام من وصول جمال، ولقد صادف أحد الزملاء الصحافيين في بعض الشوارع شيخ قبيلته وقد جاء من الساقية الحمراء. ودهش لأن يجد الرجل قد قطع آلاف الكيلومترات ودخل “المدينة” التي لا يحبها، فاقترب منه يحييه ثم سأله: لماذا أنت هنا يا شيخ؟! قال: – لأقابل عبد الناصر؟! ولما سألته: – وما شانك أنت بعبد الناصر، نظر إليه الشيخ باستهجان ثم قال: – جئت أعرض عليه مسألة الماء في منطقتنا! وصرخ الصحافي: – وما دخل عبد الناصر بالماء هناك! وجاء جواب الشيخ صاعقاً: – كيف؟! أليس عبد الناصر هو شيخ مشايخ العرب جميعاً؟!
… ومن قبيل تداعي الأحداث على قلوبنا وأذهاننا وأفكارنا وذكرياتنا، صورة لا يمكن تبريرها ظهرت في صحف الأمس.
الصورة تضم موظفاً مصرياً في المقر المؤقت للسفارة المصرية في بعض ضواحي الشرقية، ومعه ضيوفه من المحتفلين معه بالذكرى الـ 34 لثورة 23 يوليو ومنهم: كميل نمر شمعون، إياه، وسمير جعجع، ما غيره، وحشد من الكتائبيين و”الأحرار” وقيادات “القوات اللبنانية”.
بيريز في المغرب، اليوم، ضيف على الحسن الثاني،
وشمعون وجعجع يحتفلان مع العسقلاني في الحازمية بذكرى 23 يوليو،
وعلى جدران بيروت شعارات تقول: لا للعروبة، لا لإسرائيل، نعم للإسلام!!
والقائد العام للثورة الفلسطينية يحرض السنة على الشيعة،
وأصحاب الجلالة الملوك لم يكونوا على علم مسبق بالزيارة، لكنهم بمجرد أن عرفوا بها فتحوا أجهزة أعلامهم لخدينهم أمير المؤمنين ليوضح الهدف من الدعوة والزيارة والمباحثات التي لا تعني الصلح أو التفاوض أو الاعتراف!
ومع هذا فثمة شمس ستشرق غداً، لأن الكون لم ينته بعد، وهو أكبر من أن يحتويه أمير المؤمنين بكمه، وهي أعظم من أن يطفئها الملوك بأفواههم المقفلة على أسنانهم المذهبة.
وتبقى الكلمة، من قبل ومن بعد، لأصحاب الحق: الحق في الأرض، والحق في القرار، والحق في قبول أمراء المؤمنين أو تقويمهم بحد سيوفهم!