ليس كثيراً على العرب أن يحظوا من الولايات المتحدة الأميركية بشيء من عرفان الجميل،
فعبر التاريخ لم يحظ أجنبي كائناً من كان، وبأي ثوب جاء إلى المنطقة، بمثل الرعاية والقبول والترحيب أو التسليم بوجوده وبدوره التي استقبل بها العرب الأميركيين خلال أزمة الخليج والحرب لوضع حد لمغامرة صدام حسين المجنونة في الكويت.
حتى من ساير صدام حسين من الحكام العرب، بالرشوة أو بالاحتياج أو بالرهان الأحمق، لم “يتطرف” في موقفه إلى حد ارتداء ثياب القتال ضد العسكر الأميركاني، ولم يتخذ أي تدبير جدي ضد المصالح الأميركية في المنطقة، وما أكثرها.
بل لعل بعض هؤلاء الحكام قد ماشى صدام حسين لأنه قدّر أن المغامرة ستنتهي بالتفاوض وحلم بأن ينال نصيبه من جوائز التسوية التي ستضع خاتمة سعيدة للخلاف الطارئ بين الإدارة الأميركية وحاكم بغداد الذي لم يعرف أبداً، ولاسيما منذ تورطه في الحرب ضد الثورة الإسلامية في إيران، بالعداء للإمبريالية الأميركية وبالمشاغبة على مصالحها الهائلة في بلاده أو في محيطها الغني.
وبالتأكيد فإن قيام تحالف عربي، عريض نسبي، في مواجهة مغامرة حاكم العراق (العربي!) قد أعطى الولايات المتحدة الغطاء الضروري والذي لا غنى عنه لتنفيذ عملية “عاصفة الصحراء”، كما منحها فرصة تاريخية غير مسبوقة لطي صفحة العداء وانعدام الثقة مع العرب، عموماً، إضافة إلى أنه وفر لها السانحة الذهبية لإعلان تفردها كقوة عظمى على قمة القرار الكوني.
بالمقابل فإن بعض الأطراف العربية، التي كانت تصفها واشنطن بالراديكالية وتخصها بالكثير من عدائيتها وسلبيتها، وبينها على وجه التحديد سوريا، قد تحملت الكثير من العنت والحرج والضيق والتشكيك وهي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أساسيات الموقف التضامني العربي وثوابته، ومن مقومات الوجود العربي في لحظة التحولات الكونية الهائلة،
لقد دفع الجميع ثمن المغامرة البائسة التي ارتكبها صدام حسين “الحلفاء” والخصوم، وقبلهم جميعاً الأمة بكافة أقطارها وبالغالي من معنوياتها وسمعتها ومن اقتصادياتها ومصالحها العليا.
والأدهى إن الدوائر الصهيونية في واشنطن قد حاولت وما تزال تحاول أن تبتز العرب، وبالذات أصحاب الشعارات الراديكالية، بنبش ماضي العلاقة الحافل بالعدائية مع السياسة الأميركية، لاستعداء واشنطن ووضع العراقيل أمام بناء علاقة جديدة مقبولة ومحققة لمصالح الطرفين.
كما إن هذه الدوائر ذات النفوذ قد حاولت وما تزال تحاول ابتزاز واشنطن عن طريق تصوير أي تطور في العلاقة مع العرق وكأنه عمل عدائي ضد الكيان الصهيوني.
وليس بالمصادفة أن يظل في واشنطن وبعض عواصم الغرب، من هو مصر على القفز من فوق نتائج الحرب ضد صدام حسين، ليوجه تهمة “الإرهاب” إلى سوريا، مستذكراً بعض الحوادث أو الوقائع المدبرة (مخابراتياً)، أو متنبهاً فجأة (!!) إلى وجود “زعيم نازي” – أو إنه كان نازياً قبل نصف قرن!! – في بعض أنحاء بلاد الشام!!
هذا في حين تمضي إسرائيل في تصلبها ورفضها لكل المقترحات المطروحة لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى قاعدة الحد الأدنى، بل والأدنى من الأدنى، الذي أقرته “الشرعية الدولية” منذ أربعين سنة وحتى اليوم.
وضمن هذا السياق، تواصل إسرائيل سياستها المنهجية في إبادة القضية الفلسطينية وفي شطبها من جدول الاهتمامات العالمية، مستعينة دائماً “بغربيتها” في مقابل “العرب”، ومتكئة باستمرار على الدعم الأميركي وهي تمارس سياستها العنصرية ضد الفلسطينيين كشعب، فتمنع عنهم الحد الأدنى بل والأدنى من الأدنى من حقوق الإنسان، فكيف بالمواطنين في وطن تحتله وتهجرهم منه بقوة السلاح؟!
وإذا كانت مهمة وزير الخارجية الأميركي الجديدة في طريقها إلى الفشل، شأنها شأن المبادرات الأميركية السابقة، ودائماً بسبب التعنت الإسرائيلي، فمن حق العرب (أو بعضهم) أن يغيروا أسلوب “الحوار” مع الولايات المتحدة، وألا يقنعوا منها بالقدر الأبدي: لقد حاولت ولكن خاب جهدي!! فاعطوني المزيد من الوقت، والمزيد من التنازلات ، لعلني أنجح مع هذا “البغل” الإسرائيلي العنيد!
لقد دفع العرب، وليس غيرهم، ثمن مغامرة صدام حسين، وليس من حق أحد أن يزايد عليهم، فيدعي إنه قد “خلصهم” منه. ودفعوا الثمن من دمهم وأرواح بنيهم واحتمالات تقدمهم وأحلام أجيالهم الجديدة.
فهل بعد هذا وفوق هذا يطالبون بدفع فاتورة تأمين إسرائيل ضد شعب فلسطين وضد دول الطوق، من سوريا إلى لبنان إلى الأردن، وحتى مصر التي لم تلجمها كفاية معاهدات الصلح المنفرد، كما تحاول إسرائيل الإيحاء بين الحين والآخر، من ضمن سياستها الابتزازية للعرب؟!
وها هي السعودية ومصر تقدمان “سلفة” إضافية إلى الإدارة الأميركية عبر بيانات التأييد والدعم لمهمة جيمس بيكر التي لم تتضح معالمها تماماً، والتي ما تزال مهددة بأن تجهض أو تموت في مهدها على يد القابلة الإسرائيلية.
وليس من حق واشنطن أن تستمر في “استهبال” العرب وفي تمرير الخديعة ذاتها بأنها حاولت فلم تنجح، وإن عليهم أن يعطوها المزيد من الوقت والتنازلات لعلها تنجح ذات يوم، وإذا كانت دمشق قد نجحت حتى الآن في حماية “رصانة” الموقف العربي وتمنع دمغه بالاستسلام والتفريط، فهي وحدها المؤهلة لأن تشكل الرافعة لاستنهاض الوضع العربي من أجل الضغط على الموقف الأميركي من موقع الصديق أو الحليف أو الراغب في علاقة صحية، وليس من موقع الخصم أو العدو ومن منطلقات بحت مبدئية.
لقد وفر صدام حسين الذريعة، لكن واشنطن أثبتت كفاءة وقدرة غير محدودة في استخدام الأمم المتحدة ومجلس الأمن و”الشرعية الدولية” بكافة أشكالها، وهي ما تزال تستخدم تلك الشرعية لتغطية ممارساتها في العراق، شمالاً وجنوباً، وتحقيق أغراضها وتأمين مصالحها،
وسيكون إفراطاً في السذاجة تصديق الادعاء بأن الولايات المتحدة عاجزة عن التأثير على الموقف الإسرائيلي، وتليين تصلب إسحق شامير، ناهيك بأرييل شارون، و”انتزاع” نصر شكلي كوقف بناء المستوطنات الإسرائيلية على أراضي الشعب الفلسطيني المسحوق.
كذلك سيكون استغباء للعرب قبول الادعاء الإسرائيلي بأسطورة الخوف وخرافة الحدود الآمنة، خصوصاً وإن الحرب قد أحدثت خللاً هائلاً في توازن القوى المختل أصلاً بين العرب (مجتمعين) وإسرائيل منفردة… فالعرب اليوم أضعف (عسكرياً واقتصادياً) بما لا يقاس عما كانوا عليه في 2/8/1990، وإسرائيل أقوى بما لا يقاس (عسكرياً واقتصادياً) مما كانت عليه عشية مغامرة صدام حسين الغبية.
ومع الوعي بأن العرب لا يستطيعون أن يفرضوا شروطهم على واشنطن، ولو من باب الصداقة، فإن واشنطن لا تستطيع أن تفرض على العرب الشروط الإسرائيلية المتجددة دائماً والمتزايدة دائماً، تحت لافتة الصداقة وتوكيداً للتحالف الذي تعمد بالدم قبل شهور قليلة على رمال الصحراء التي تفصل وتربط بين العرب الذين يعيشون شتاتاً فوق أرضهم أين منه الشتات خارجها!