طلال سلمان

على الطريق محلاظات “لبنانية” على الاتفاق المنفرد الأردني..

مقدّر على لبنان أن يدفع ضريبة كل تفرد عربي في الخروج من ميدان الصراع العربي – الإسرائيلي. والثمن يكون بفداحته متناسباً مع حجم الطرف الخارج.
فحين أراد أنور السادات أن يُخرج مصر من ذلك الصراع التاريخي المفتوح كان لا بد من نقل جبهة الحرب وتحوير طبيعتها، فتصير عربية – عربية على أرض لبنان، بدل أن تكون عربية – إسرائيلية على أرض فلطسين.
وحين نجحت إسرائيل في “قنص” اليأس الفلسطيني واستدرجت قيادة عرفات إلى اتفاق الخلسة في أوسلو، كان لا بد من حرب على لبنان وعلى سوريا فيه فكان الاجتياح الجوي في الأسبوع الأخير من تموز 1993.
وها إن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان وعلى سوريا فيه، والتي امتدت من أطراف الأرض اللبنانية المحتلة في الجنوب إلى الذروة التي تتقاطع فيها الحدود اللبنانية – السورية في قلب السلسلة الشرقية، غير بعيد عن الحرم الجوي لدمشق، تجد تفسيرها القاطع في الاتفاق المنفرد الأردني – الإسرائيلي الذي استولد قبل موعده الطبيعي.
فمن غارة الكوماندوس الإسرائيلي على قصرنبا (بين زحلة وبعلبك) واختطاف الحاج مصطفى الديراني، إلى إحراق المواسم والأشجار المثمرة في الجنوب، إلى الإغارة على معسكر “حزب الله” في عين كوكب، قرب بعلبكن كان المسرح يُعدّ باتقان شديد للغارة السياسية الصاعقة ممثلة في هذا الاتفاق المنجز والمرجأ توقيعه إلى أجل معلوم.
وإذا كانت الغارات على لبنان إسرائيلية أساساً بموافقة أميركية ضمنية، فإن هذا الصلع المنفرد الجديد هو غارة إسرائيلية – أميركية مشتركة وعلى سوريا ومعها لبنان لأن نتائجها تصيبهما معاً.
لا ينفع اللوم، ولا يفيد البكاء على الأطلال إلا في فتح المزيد من الجراح النازفة.
ولكن، لا بد من تسجيل بعض الملاحظات ليس من باب التآسي على ما كان، ولكن من باب محاولة استشراف المستقبل وما يمكن أن يجيئنا به:
الملاحظة الأولى
إنه في حالة الأردن، ومن قبل في حالة المنظمة، وقبلهما في حالة مصر، كان “الحكم” هو الذي يذهب إلى الصلح منفرداً.
لم تجرؤ “المعارضات” الأردنية والفلسطينية وحتى المصرية، أو أنها لم تقدر على الذهاب إلى الحرب، لا ضد إسرائيل ولا ضد النظام الذي صالحها.
(تمكن هنا الإشارة إلى استثناءات محدودة، فلسطينية خصوصاً، لكنها ظلت أضعف من أن تغير النتائج)…
في لبنان وحده يلبس الحكم ثياب الحرب ضد إسرائيل، بينما يقبع خارجه بعض أصناف “المعارضة” الذين تجاوزوا “الصلح” مع إسرائيل إلى “التحالف” معها في بعض أطوار الحرب الأهلية التي ظلت مفتوحة طوال عقدين تقريباً… وكانت الذرائع تتبدل بتبدل أطوار الحرب، فهي تارة تتخذ شعار “الحرب لتحرير لبنان”، وهي تارة أخرى تكون بشعار “توفير الأمن الذاتي للمجتمع المسيحي”، وربما ادعت، تارة ثالثة، أنها تريد الاستعجال في دخول النظام العالمي الجديد، واللحاق بالعصر عن طريق… السلام!
الملاحظة الثانية
في لبنان وحده يستعير الحكم منطق المقاومة، (وإن ظلت طائفية رجاله أو مذهبيتهم تحكم حركته فيتوجه بعد الغارة للتعزية بالشهداء إلى المراجع الشيعية، وكأنهم أقرب إليهم منه)..
ولبنان محكوم بمنطق المقاومة، وبالضرورة لا بالرغبة، فالصلح المنفرد يلغيه والانضباط بالمنطق القومي، وإن تخلى عنه الآخرون ، يعصمه ويحميه.
وشتان ما بين منطق المقاومة للاحتلال والمعارضة المدجنة داخل نظام مدجن داخل سور أو سجن الصلح المنفرد.
يكفي أن نلتفت إلى أنظمة الصلح المنفرد لنتحقق من أن معارضاتها تشبهها الآن تماماً، خصوصاً وإنها قد استنزفت على امتداد سنوات طوال حتى كادت تندثر. وكان لا بد من اندثارها (الفعلي) مع بقائها شكلاً لتستطيع الأنظمة أن تذهب إلى التوقيع مطمئنة إلى أن “الجمهور” سيصفق لها، ديموقراطياً… أقله في البداية، وقبل أن يكتشف كما اكتشف المصريون من بعد أن هذا “المخرج” الاضطراري لا يفضي لا إلى الاستقرار ولا إلى الازدهار وإعادة الإعمار بل إلى مزيد من التعاسة والبؤس والإفقار وافتقاد الكرامة والقضية الوطنية.
الملاحظة الثالثة
لكل مَن عقد اتفاق صلح منفرد مع إسرائيل عذره “العربي” العام، ومن ثم عذره “القطري” الخاص:
خلاصة العذرالأول تخلي “العرب” عنه وإخلالهم بالالتزامات وتنصلهم من مسؤولياتهم القومية في تدعيم صموده…
أما خلاصة العذر الثاني فهي “أنه من حق شعبنا علينا، نحن الذين ضحينا من أجل الأمة وقضيتها المقدسة، أن نلتفت إلى همومه ومشكلاته المباشرة فنهتم بإيجاد الحلول المناسبة لها، فمن حقه أيضاً أن يعيش..”.
الملاحظة الرابعة
إن وضع الأردن، في اتفاقه الجديد – القديم، يستوقف فعلاً في توقيته وظروف توقيعه أكثر منه في نصوصه… الشاملة.
فهو يكرر خدعة السادات وعرفات المحجوجة والمكشوفة: يندفع قدماً على طريق الصلح المنفرد رافعاً راية الحل الشامل والعادل والدائم.
وهو يهاجم الذي سابقوه فسبقوه إلى إخراج أنفسهم من الصراع، ويهاجم معهم الذين تخلى هو عنهم من رافضي الحلول المنفردة والصامدين على مطلبهم الطبيعي في الحل الشامل، وهو هنا فقط ينتقل من المحسوس إلى النوايا فيتهم هؤلاء الذين كان يلتقيهم كل يوم تقريباً وعلى أعلى المستويات، بأنهم كانوا “ينوون” التخلي عنه وحيداً راكضين إلى حل موهوم هو أكثر من يعرف أنه غير موجود، وأنه إذا وجد فلسوف يكون مرفوضاً لأسباب عملية وليس فقط مبدئية.
ألم يكن الأردن يطلق الآمال حول مشروع (وهمي) للتكامل الاقتصادي مع سوريا ولبنان، فماذا عدا مما بدا حتى اندفع إلى التوقيع على اتفاقات فعلية تشمل الاقتصاد والتجارة والعملة والأمن والحدود والمياه والبيئة والسياحة والأمراض مع … إسرائيل؟!
وبالتأكيد فهو ما فعل ذلك إلا وهو مطمئن إلى أن المعارضة للحل المنفرد قد تم تذويبها، “ديموقراطياً”، فتأردنت وفكت ارتباطها – مثله – مع فلسطين، وإن استبقت شعار “الإسلام”، فهو ينفع في كل مكان وكل زمان ويمكن استخدامه للحرب كما للسلام، بشهادة عرفات فيحديثه عن “الجهاد”.. والهاشميون هم الورثة، وهم الأوصياء على مثل السلف الصالح يستخدمونه في ما يخدم مقتضى الحال، وليسوا مثل عرفات مطعوناً في نسبه كما في نسبته الحديث إلى المكرمين من أهل البيت؟!
لقد استعاد الملك حدود إمارة الجد، وخرج من فلسطين محتفظاً بثلث شعبها تقريباً، مقابل أن يتخلى عن كل أرضها.
وكما دخل بالطلب ومن باب أريحا، فهو يخرج بالطلب ومن باب أريحا ذاتها.
العرش أهم من الأوطان. والعرش قابل للتمدد، فهو يمكن أن يغطي بظله قطرين أو ثلاثة، وهو يمكن أن يضمر في حجم نصف قطر أو حتى الربع إذا ما قضت بذلك قواعد زمن التحوّل.
وفي زمن خروج الفلسطينيين من فلسطين، وإخراج من رفض الخروج بإرادته، أو إخراجها منه، لا يعيب الملك الهاشمي أن يكون بين الخارجين.
فهو يستطيع الادعاء أنه افتدى العرش بالحل المنفرد، في حين أضاعوا بالحل المنفرد حلماً كان مرشحاً لأن يتحول إلى مشروع وطن ولو على بعض أرضه.
وليس أمامنا في لبنان غير الصمود لاستنقاذ الأرض ومشروع الوطن ومعهما: الحكم المموّه نفسه بلباس المقاومة لألف سبب أهمها وأبرزها أن الحل المنفرد يلغيه ويبقيها.

Exit mobile version