من موقع الضحية، نتطلع بإشفاق عظيم إلى وزراء الخارجية العرب وهم يتلاقون للمرة الثالثة، في حضن مجلس جامعة الدول العربية بتونس، للنظر في المسألة اللبنانية.
ذلك إننا نعرف مقدار الحرج متعدد الأسباب الذي يستشعرونه، والذي يعطل، مسبقاً، إمكان اتخاذ قرارات حازمة وحاسمة كالتي يتوقعها اللبنانيون، على اختلاف اتجاهاتهم.
فلا السادة الوزراء في موقع القاضي، تماماً، ولا هم في مرتبة “المحلفين”،
لا هم “النيابة العامة” ولا هم “هيئة الدفاع”
لا هم، بالضبط، “المدعى عليه” ولا لهم جرأة صاحب الحق “المدعي” لرفع الحيف عنه،
إن فيهم مواصفات هؤلاء جميعاً، وأكثر منها، وهذه من معطلات الأحكام،
ثم إن السادة الوزراء لا يمثلون أنفسهم أو رؤساءهم، وملوكهم وسلاطينهم فقط، بل لقد فوضوا صلاحيات استثنائية تثقل كواهلهم وتشل حركتهم المقيدة أصلاً،
أليس العالم كله، بشرقه وغربه، معهم؟!
ألم تمحضهم القوى العظمى ثقتها الغالية، ومعها المرجعيات الدينية الأممية من قداسة البابا وحتى مفتي الديار في بنغلادش؟!
ألم يلقهم هؤلاء جميعاً في أليم اللبناني، البلا ضفاف قائلين لهم “إياك، إياك أن تبتل بالماء”؟!
كانوا في هم واحد فصاروا عائمين في بحر من الهموم،
كانوا يعتبرون إنهم إنما حشدوا لكي يتموا صلحاً عشائرياً بين أخوين اقتتلا. وكانوا أعدوا عدتهم وتواعدوا على “كرة عرب” واثقين من أن المختصمين لن يكسروا “جاههم” ولن يردوهم خائبين،
لم يكونوا يقدرون، ولا هم يريدون أن تفتح الملفات المقفلة بعناية على قنابل موقوتة، فعلها أخطر من القنابل النووية، أو أن تطرح القضايا الخطرة التي يحظر عليهم التفكير فيها ولو بالسر، فكيف بالتداول والمناقشات المفتوحة، ولو في قاعة مغلقة.. والحكمة العربية القديمة تنصح بقضاء الحوائج بالكتمان، وأين يبقى السر وعدد المجتمعين يجاوز المئتين وهو يشيع إذا ما جاوز الاثنين عداً؟!
النظام، السلطة، الطائفة، الكيان، حقوق الإنسان، الديموقراطية، الحرية، المشاركة، العدالة الاجتماعية، المساواة.
وأيضاً الهوية وموجباتها، الصراع العربي – الإسرائيلي والدور فيه، الانتماء والولاء الخ.
ليس السادة الوزراء من “العبط” بحيث لا يعرفون إن هذه القضايا جميعاً أكبر من أن تتسع لها حدود البلد الجميل الصغير، لبنان،
وليس السادة الوزراء من البطولة بحيث ينتدبون أنفسهم لمهمات انتحارية يعرفون قطعاً إنهم لن يعودوا منها سالمين، بالغة ما بلغت التطمينات الأميركية والضمانات الدولية.
وماذا ينفعهم أن يربحوا بالمنطق، وفي لبنان، ويخسروا المنصب (وربما الحياة) في عواصمهم ولدى سادتهم الملوك والرؤساء والسلاطين؟!
إن لبنان قضية عربية، يعرفون هذا تماماً.
والعلل والأمراض التي يعاني منها لبنان منتشرة ومستشرية في أنظمتهم، ولا يهم هنا أن تكون هذه العلل قد ظهرت في لبنان أولاً ثم انتقلت إليهم بالعدوى، أو أن يكونوا هم المصدر،
فالجسم واحد، ولو تعددت البيارق، والعلاقة جدلية وعلى خطين، تأخذ وتعطي.
والبحث سيتجاوز شخص “العماد” وسائر أطراف الصراع في لبنان، ليتناول النظام العربي، في سائر أرجاء الوطن الكبير، الذي تزايد إزعاج النموذج اللبناني له طردياً مع تفاقم عجزه،
يوم كان النظام العربي قوياً كان “يوظف” النموذج اللبناني لخدمته، ويحتسبه في عداد عوامل قوته بل يتخذه دليلاً على قوته: هاكم لبنان يؤكد لكم أن قوتي غير محدودة.
أما يوم صار النظام العربي ضعيفاً، معدوم الشعبية، عاجزاً عن الإنجاز والمواجهة وحتى الصمود، محاصراً في القصور المحروسة المداخل بالعسس والدبابات والطائرات والصواريخ، فقد صار لبنان – بذاته – عبئاً وصار وسيلة للتشهير بهذا النظام – السجان وهو رهين المحبسين . الخوف من كل شيء. الشعب، الجيران، القوى الخارجية، والرعب من قصوره وحجم جريمته التي سيحاسب عليها ذات يوم.
هل خرجنا على الموضوع؟!
لنعد، إذن، إلى صلبه، معتمدين أقصى حد ممكن من التبسيط حتى لا ننكأ جراحاً غائرة ولا نفتح جراحاً جديدة في الجسد المتهالك والمعدوم الحصانة.
المسألة اللبنانية في تمظهرها الحالي بسيطة للغاية: لبنان كيان ممنوع شطبه لكنه بلا دولة، ونظام ممنوع تغييره ولكنه يعاني من فقر في الدم بحيث لا يستطيع تجديد نفسه.
شرط تجديد الدولة أن يتم حد أدنى من التغيير في التجسيد السياسي للنظام عبر مواقع السلطة ومراكز القرار،
وهنا تبدأ ملامح المعضلة في التبلور.
فلا أصحاب النظام بقادرين على حمايته وتأمين استمراره كما كان، ومن دون تغيير،
ولا معارضة النظام فيها من العافية ما يسمح لها بإنجاز التغيير المطلوب، ولا هي بقادرة – حتى لو رغبت – باستمرار التسليم به على علاته، لأنه لا يعطيها الحد الأدنى من المساحة (أو المشاركة) الكافية للتنفس وإثبات الوجود.
أصحاب النظام يستقوون بالعجز الوطني والقومي عن شطب الكيان الذي استولده الأجنبي في لحظة سياسية معروفة وموصوفة.
ويستقوون أيضاً بسقوط النظام العربي في معركة اختيار البديل.
ويستقوون ثالثاً بحرص النظام العربي على هذا “الستاتيكو” الذي يشكل له قاعدة الاستقرار الذي يوفر له الاستمرار، ولو على حين،
ومعارضة النظام تستقوي بمشاعر القهر والغبن والحرمان التي تجيش في صدور الأكثرية الساحقة من اللبنانيين،
وتستقوي بالمنطق وسائر المطلقات كالحق والوطن.. الحلم والمواطن السوي ذي الكرامة وذي الدور في مصير بلده، ومن باب أولى في حكمه وطبيعة نظامه.
… وتستقوي بالضيق العربي ذي الجذور القومية بهذا الكيان اللبناني، وأكثر منه بهذا النظام الفريد الذي كان يأخذ من العرب ولا يعطيهم، ويشهد عليهم ولا يشهد لهم، وأخيراً رماهم بدائه الوبيل، الطائفية، فلم يعرفوا كيف يعالجونه فيه ولا كيف يمنعونه عن واقعهم الهش وغير المحصن التحصين السياسي (والاجتماعي والثقافي) الكافي.
… وتستقوي أخيراً بعجز هذا النظام عن تجديد خلاياه وإعادة إنتاج مبررات استمراره.
فلقد تساوى في “التغرب” معهم. لم تعد غربيته ميزة، بل لعله صار في آخر الطابور، فأين هو من مصر كامب ديفيد، ومن الكويت المحتمية بالعلم الأميركي، ومن فلسطين المعترفة بحق إسرائيل في الوجود من أجل حوار (مجرد حوار) مع سفير أيمركي الخ؟!
وأزالت الحرب الأهلية، المتعددة المراحل والأسماء، قشرة التقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي الطارئ، فإذا لبنان بكتلته البشرية الأساسية وببنيته التحتية، واحد من بلدان العالم الثالث المتخلفة،
ولعل “نخبته” السياسية، الحاكمة كما المعارضة هي التي فضحت القصور والتخلف في النظام أولاً، ثم في البلد ككل.
كانت بيروت مطبعة العرب، كتابهم وجريدتهم ومنتداهم الفكري، لكن “نخبته” الحاكمة شبه أمية، وفي أحسن الحالات ممن لا يقرأون،
وكانت بيروت بالحركة الحزبية والتيارات المتماوجة فيها الشارع الوطني والقومي للعرب جميعاً، لكن “نخبتها” السياسية كانت بعيدة تماماً، تنتمي بمعظم نماذجها إلى تيار الانعزال والتقوقع الذي يجد تبريره الأساسي في الانتماء الطائفي الذي صار مؤسسة للتعصب لا تنتج إلا أسباب البؤس والموت والدمار، أي الحرب الأهلية.
هل خرجنا على الموضوع مرة أخرى؟1
لنعد، إذن، إلى صلبه بسؤال محدد: أين يكمن المدخل الطبيعي لتناول المسألة اللبنانية؟!
أليس في تمكين اللبنانيين من العودة ببلادهم إلى صورة الدولة الطبيعية ولو كانت تعيش ظروفاً استثنائية؟!
أي دولة لها هيكليتها وهرم السلطة فيها من فوق إلى تحت: من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي، إلى الحكومة فإلى الجيش وسائر المؤسسات؟!
لقد سقطت هذه الهيكلية، المتهالكة أصلاً منذ سنوات، بالضربة الرئاسية القاضية في 23 أيلول 1988 حين تعذر إجراء انتخابات رئاسية لأن من عنده رفض أن يعطي من ليس عنده ولو الحد الأدنى المقبول لاستمرار الحياة ومن ليس عنده عجز عن أخذ ما يلزمه بقوة المنطقن فضلاً عن قوة السلاح.
وهذا الوضع القائم في لبنان، منذ منتصف ليل 23 أيلول 1988 هو وضع استثنائي وشاذ ولا يمكن أن يدوم، وهو غير قابل للحياة ومعطل لحياة اللبنانيين،
إذن فالمطلوب العودة بلبنان إلى 22 أيلول 1988 وليس إلى اليوم السابق على الثلاثاء الأسود في 14 آذار 1989.
ما الذي منع إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها ومنع، بالتالي، استمرار الدولة وهيكليتها بكل عيوبها ووجوه ضعفها؟!
إن واقع الانقسام “الرسمي” الذي نعيشه هو إحدى أخطر النتائج لمنع أو تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية ينهي الحقبة الكتائبية، حقبة الغزو الإسرائيلي ومحاصرة الإرادة الوطنية اللبنانية (والإرادة العربية) في بيروت التي ما زالت تحت الحصار حتى اليوم.
والمطلوب من السادة الوزراء العرب الذين سيتلاقون غداً في تونس أن يعودوا بنا ومعنا إلى ذلك المدخل الشرعي للتعاطي مع المسألة اللبنانية في طورها الراهن، وإلا يغرقوا ويغرقونا في مزيد من التفاصيل المنهكة التي يضيع في بحر تبنها الموضوع الأصلي وتضيع معه المسؤوليات.
فميشال عون مغتصب للسلطة من دون أن يتكلف المغامرة بانقلاب عسكري،
مغتصب بشهادة الأمر الواقع، حتى لا ندخل في متاهة الجدل الدستوري والقانوني حول شرعيته المستمدة من توقيع أمين الجميل، المعزول في قصره مقاطعاً من أكثرية شعبه المطلقة، بمن فيها – يومذاك على الأقل – الأكثرية المارونية التي تعترض اليوم على “حكم” ميشال عون وإن سلمت “بشرعيته” باعتبار الشرعية من ضمانات الطائفة العظمى وامتيازاتها ذات القداسة.
لبنان بلد عربي بلا دولة.
سننسى كونه قضية عربية وجرحاً عربياً مفتوحاً، وسننسى للحظة خطره على نفسه وعلى أمته بكل أقطارها وعلى النظام العربي المتهالك والمستبقى حياً بالمقويات والمسكنات الأميركية ولأسباب ومصالح إسرائيلية واضحة.
والمطلوب من الوزراء العرب المساعدة على إعادة بعث الدولة في لبنان،
وهم الآن يعرفون ما كانوا يجهلون : الاصلاح ضرورة، والانتخاب ضرورة ولا يغني أولهما عن الآخر، وليس أيهما بديلاً للآخر.
والمهم تمكين اللبنانيين من إنجاز هذه الخطوة التي عجزوا عنها قبل ستة شهور بالتمام والكمال،
بعد ذلك يمكن الحديث عن سوريا ودورها ووجودها العسكري في لبنان، بل قد تكون تلك المهمة الأولى للحكم العتيد، في أعقاب تأمين إجلاء قوات العدو الإسرائيلي من الجنوب.
الموضوع، إذن، وجود ميشال عون محتلاً وغاصباً لقصر الموت الجمهوري. في بعبدا، وليس وجود القوات السورية في لبنان، وهي التي مضى عليها ثلاث عشرة سنة أو يزيد، ولن يمكن الوصول إلى قرار بخصوص استمرارها أو خروجها لا اليوم ولا غداً، خصوصاً مع استمرار الوضع المغلوط القائم،
بل إن إخراج ميشال عون من قصر بعبدا بات يشكل شرطاً للبحث في خروج القوات العربية السورية.
وإذا كان “العماد” يريد فعلاً، رحيل هذه القوات فليبدأ بنفسه وليقم بالخطوة الوحيدة المفيدة التي يمكنه القيام بها: أي الخروج من بعبدا مخلياً الطريق أمام الحد الأدنى من الاصلاح الضروري لمجيء رئيس جديد للجمهورية وحكم جديد قادر على طرح القضايا الكبرى التي تحتاج إلى قرارات مصيرية يتلاقى عليها الشعب بمجموعه مثل خروج القوات العربية السورية من لبنان.
النار، لا وقف النار، الدولة لا شرعية أو لا شرعية “حكومة العماد” الجمهورية ورئيس الجمهورية وليس “القائد” الذي أنبته الشعب في غمضة عين وتحت القصف المدمر،
أما بعض المهمات “البسيطة” الأخرى، كفك الحصار عن لبنان، بل عن الأمة العربية كلها، فيمكن تركها للمستقبل، وللقادرين على التصدي لمسؤولياتها الجليلة.
هل يقدر السادة الوزراء العرب على مجرد التصدي لمثل هذا الموضوع الخطير، أم ستراهم سيتركوننا في النار في انتظار أن يفرغوا من مناقشة شروط وقفها؟!
هل جاءتهم كلمة السر، أم تراهم سينتظرون بعد، وسيستمر اللعب في الوقت الضائع بينما البلد كله مهدد بالضياع، بشعبه بعد دولته المندثرة؟!
وهل يكون هذا الاجتماع منطلقاً لهدنة طويلة أم سبباً لتفجير أخطر مما سبقه حتى اليوم؟!
سوء الظن من حسن الفطن، في مثل هذه الحالات، والاحتياط واجب، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج الخ…
مع ذلك فليس لنا خيار إلا انتظار الخير، من أهل الخير، من أهلنا العرب. وسنظل ننتظرهم على النار!