ليس أسهل الآن من توجيه اللوم وتوزيع التهم بالتقصير والعجز عن ضبط الأمن في بيروت، والتسبب – بالتالي – في ما حدث صبيحة عيد الأضحى للرئيس سليم الحص ومرافقيه أمام بيت مفتي الجمهورية.
بل ليس أسهل من توزيع اللوم والاتهامات بمفعول رجعي يصل إلى 6 شباط، باعتباره تاريخ إعلان “استقلال” بيروت الغربية عن الحكم القائم أو بالأحرى تاريخ “استغناء” دولة الحكم القائم عن بيروت الغربية، وتركها لمن أراد أخذها، وتحمل المسؤولية الكاملة عنها، وعن مصيرها وأساساً عن حياة الناس فيها.
وليس أسهل على كثير من أصحاب الرأي والدور أو من مدعدي الحكمة، ونفاذ البصيرة ومعرفة الغيب من الالتفات إلى من يعنيهم الأمر، بعتاب مر مفاده : ألم نقل لكم؟! ألم ننبهكم؟ ألم نحذركم؟! ألم تكن المؤامرة تتحرك كالأفعى الأمازونية، أمام عيوننا جميعاً؟ ألم تكن نار الفتنة تستعر وتتمدد أذرعها الاخطبوطية يوماً بعد يوم، ملتهمة المزيد من مقومات صمود بيروت ومن فيها، وقدرتهم على مواجهة المدبرين وما يدبرون لـ “الأميرة” وللرموز المضيئة فيها، ولعموم الأهالي فيها، بمن فيهم “البيارتة”، والوافدون من أرياف الملحقات البعيدة.
على إن هذا كله ليس هو الموضوع الآن، ولا يجب أن يكون، فالأمر أخطر من أن يعالج بادعاء المعرفة أو بادعاء العصمة، أو بهز الرأس يأساً، من إمكان أن يستطيع الوطنيون في هذا البلد، وفي أي موقع كانوا ، تحمل المسؤولية عن أمن البلاد، أو بعض أجزائها، وبيروت الغربية بالتحديد، وعن أمن الناس وبالذات قياداتهم الشريفة والنظيفة والمتصدية بالصدور والعقول والوعي وعمق الشعور الوطني للمؤامرة والمتآمرين ولنار الفتنة ومشعليها والنافخين فيها ، حتى لا تبقى ولا تذر
الأمر أخطر، إنه يتصل بالمشروع الانقلابي، الذي بدأ تنفيذه على الأرض مع الاجتياح الإسرائيلي، ووصول حزب الكتائب إلى سدة السلطة، والذي لم يتوقف العمل لإنجازه لحظة واحدة، برغم مظاهر التراجع وادعاءات التوبة ونفض اليد من سياسة الهيمنة، بكل وقائعها المدمرة.
وبعودة بسيطة إلى الذاكرة، يتبين بوضوح إن منطلق المشروع الانقلابي كان – وما يزال – تدمير بيروت معتمداً لتحقيق هذه الغاية سياسة قوامها التفتيت والتمزيق وإلغاء دورها الحضاري المتميز وضرب الرموز المضيئة فيها.
لقد حقر هذا الحكم بيروت كما لم يحرقها أحد في تاريخها، ولم يوفر مرجعاً من مراجعها وقياداتها الروحية والسياسية.
ومن غير قصد التعريض بأحد، يمكن الالتفات إلى الحكومة الأولى لهذا العهد وإلى جملة الممارسات التي استنهضت بيروت واستعدت أهاليها جميعاً، وقبلهم ومعهم أهالي ضاحيتها النوارة، وجعلتهم يواجهون الحكم وأدواته بالسلاح وصولاً إلى 6 شباط وما نتج عنه، وبين ما نتج عنه، إلغاء اتفاق 17 أيار، والمؤتمر الثاني للحوار الوطني في لوزان، ثم هذه الحكومة التي كان وجودسليم الحص فيها محاولة اعتذار من بيروت كما كان وجود وليد جنبلاط اعتذاراً من الجبل ووجود نبيه بري اعتذاراً من الضاحية بذاتها، وبما تمثله من امتداد للجنوب والبقاع وبعض الشمال.
ولقد شوّه هذا الحكم سمعة بيروت كما لم تشوه عبر تاريخها، وساعد على تصويرها أمام العالم وكأنها غابة تهيمن عليها مجموعات من الهمج والإرهابيين والعشائر المسلحة، التي لا تقيم وزناً لا للعلم ولا للعلاقات الدولية ولا لمقتضيات الوحدة الوطنية، ولا لأية قيمة من قيم المجتمع المعاصر.
وليس بوسع أحد أن يبرئ المشروع الانقلابي ورعاته، من مسؤولية ما وقع من تعديات على السفارات والدبلوماسيين العرب والأجانب، وعلى أساتذة الجامعات وكذلك من محاولات إثارة الفتنة بين الأديان، ثم بين الطوائف، ثم بين مذاهب الدين الواحد.
ومن يستطيع أن يبرئ دعاة المشروع الانقلابي وحماته والمستفيدين منه، من جريمة تفريغ بيروت من المؤسسات الرسمية، إدارات ومعاهد، والشركات الخاصة إضافة إلى تحريض السفارات على الانتقال إلى الجهة الأخرى من بيروت، وكأنها – وهي الغيتو – أرض الشرعية ومقرها، وموئل السيادة والتحرر والتطبيق الحرفي للقوانين مرعية الأجراء.
وليس ثمة حاجة إلى أعمال الذهن لتوفير الأدلة على إن المشروع الانقلابي كان لا بد أن يحاول الخلاص من الرئيس سليم الحص وأمثاله، تماماً كما من المؤسسات السياسية، والإعلامية والثقافية المناهضة لفكرته ونهجه.
إن شرط نجاح المشروع أن تنتهي بيروت التي كانت درة العرب وعاصمتهم الفكرية والثقافية وعاصمة مطبعتهم وصحيفة الصباح والمجلة والكتاب، والحركة السياسية النشطة، والعمل الشعبي الفائق الحيوية والتنوع، بفضل الهامش الديموقراطي المتاح.
فلا يمكن إنهاء لبنان الذي كان، واصطناع لبنان جديد، مطابق لمواصفات المشروع الانقلابي الذي كان المرحوم بيار الجميل دائم الحديث عنه، عبر سؤاله اليومي “أي لبنان نريد” إلا إذا انتهت بيروت. ولكي تنتهي بيروت فلا بد من اغتيال العمل السياسي والصحافة والثقافة والحركة الفكرية على وجه الخصوص.
لا بد من إيصال الناس إلى اقتناع، ولو كريه، باستحالة قيام دولة لجميع أبنائها، وباستحالة الحفاظ على الوحدة الوطنية والعيش المشترك، لا بد من إيهام الناس بأن الأمان والأمن والاستقرار والازدهار لا يمكن أن تتوفر إلا حيث يكون لون طائفي واحد، أما حيث تتعدد الانتماءات الدينية والطائفية والمذهبية، فليس ثمة غير القتل والاغتيال والسيارات المفخخة والاشتباكات والتعديات الخ.
ولكي نكون منصفين فلا بد من الاعتراف بأن هذا جانب واحد من القضية، أما الجانب الآخر فهو ذلك المتصل بالطرف الآخر، أي بالمناهضين للمشروع الانقلابي ومسؤولياتهم عن هذا الوضع القائم والمتفاقم بعد، والمنذر بمزيد من الأخطار المصيرية.
وفي هذا المجال، يمكن أن تكتب مجلدات. لكننا في هذه العجالة، يمكن أن نكتفي بملاحظات سريعة وأولية على أن نعود إليها بمعالجات أشمل وأكمل.
بين هذه الملاحظات:
1 – إن كل رصاصة تطلق في بيروت الغربية هي رصاصة على بيروت ومن فيها، أو هكذا يجب أن يكون المقياس وقانون التعامل بمسؤولية مع عاصمتنا الأميرة، وحياة الناس. ونكاد نقول أكثر: إن كل سلاح يحمل في بيروت خارج إطار المعركة الفعلية هو سلاح ضد بيروت.
2 – إن جهة ما، هيئة ما، قوة ما، أو مجموعة قوى سياسية، يجب أن تقرر للمرة الأخيرة: هل في لبنان وفي بيروت تحديداً، دولة أم لا؟ وأي دولة هي هذه الدولة؟! أهي “دولة” الدولة إياها، أم دولة حركة “أمل”؟ أم دولة الحزب التقدمي الاشتراكي أم دولة “المرابطون”، أم دولة هذه الدول جميعاً؟!…
3 – ثم لمن الأمرة في هذه البيروت؟! ولمن تتبع أجهزة “الدولة”، من جيش وقوى أمن؟! وهل هي قائمة فعلاً بعد وهل لها دور، ولمن على وجه التحديد حق الأمرة عليها؟!
إن آلاف الرجال المرتدين الزي الرسمي والمنتسبين إلى أجهزة رسمية، يتواجدون في بيروت، ويتقاضون رواتبهم، ثم لا يفعلون شيئاً، ولا يمكن محاسبتهم لأنهم يستطيعون تقديم الدليل الملموس، على إنهم أعجز من أن يستطيعوا شيئاً، بل ويمكنهم القول إنهم مطالبون بألا يفعلوا شيئاً، وبألا يتحركوا لأن الرأي وحق الحركة والتصرف لغيرهم.
4 – من الممكن أن تدبر في كل يوم جريمة مروعة كالتي استهدفت الرئيس سليم الحص، وسماحة المفتي والعديد من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية والتجارية الخ، فمن هو المرجع الصالح الذي يعود إليه الناس طلباً للعدالة والإنصاف والاقتصاص من المجرمين والقتلة، ناهيك بالمدبرين والمخططين الكبار؟!
تلك هي القضية..
فهل ثمة من هو معني بأن يواجه هذه المسؤولية العظمى بالشجاعة المطلوبة، وكيف يكون ذلك ومتى؟!
إننا نحمد الله على سلامة الرئيس الحص، وعلى إننا بالتالي استنكرنا وشجبنا وادنا ولم نلجأ إلى المراثي التي نكاد نحترف الكتابة بها.
لكن ماذا بعد؟!
ومتى يحدد كل منا، وكل بحجم مسؤوليته الوطنية والسياسية، وحسب موقعه، موقفه من المشروع الانقلابي وسبل مواجهته وإحباطه؟!
تلك هي القضية.
وحول هذه القضية، يجب أن تلتقي عقول الجميع وأفكارهم وزنودهم وأسلحتهم أيضاً، وإلا خسرنا كل شيء، حياتنا ومستقبلنا وعاصمتنا وحلم الوطن، ومن أجل مثل هذا اللقاء، يجب أن ينطلق الحوار حراً، واعياً، مسؤولاً ، فلا يتوقف إلا بحل وطني مكتمل العافية، وللكلام تتمة بعد، فإلى غد.