واشنطن هي واشنطن، لكن المفاوضات الثنائية الجارية فيها لن تكون في جولتها السابعة التي تبدأ اليوم، مجرد استئناف لما سبق من جولات.
لقد ذهب جورج بوشن بطل الحرب (على العرب) والذي طمح لأن يكون بطل السلام الإسرائيلي (مع العرب) في ظل الرعاية الأميركية.
وذهب معه مهندس هذه المفاوضات والمسوق والمروج لمنهجها (مساران لا مسار واحد، أي كل عربي على حدة مع الإسرائيلي، ثم الفلسطيني وجهاً لوجه مع ملغيه وشاطب وجوده الإسرائيلي)، وزير الخارجية جيمس بيكر.
الآتي أعظم، إسرائيلياً، وعلى العرب،
فبيل كلينتون ليس جورج بوش: لا يعرفهم مباشرة، ولم تكن له بهم صلة ود أو مصلحة، ولم يجلس إليهم فيناقش معهم أمورهم وأغراض بلاده.
بالمقابل فهو يعرف الإسرائيليين أكثر مما يجبن ولهم معه حساب مفتوح، وهو المدين وليس الدائن، ثم إنهم يعرفونه جيداً ويعرفون ما يريد وما يحتاج إليه، ولا شيء مجاناً في هذا العالم.
وبالتأكيد فإن الوفود العربية ستبدأ عملها اليوم في ظل انقباض نفسي وارتباك حقيقي: فهم قد جاؤوا بطلب من بوش، وبضمانته، واستمروا وأطالوا الإقامة وتحملوا الضيم من أجله، وبأمل أن يعينهم كلما اشتد عليهم الضغط الإسرائيلي وحوصروا بين الهزيمة العسكرية في الماضي والهزيمة السياسية التي تهدد حاضرهم.
وللارتباك أسبابه العربية أيضاً،
لقد بدأ العرب المفاوضات وهم أربعة أطراف، اليوم هم ثلاثة فقط، بعدما انفرد الأردن ومضى بعيداً عنهم إلى اتفاقه الخاص مع الإسرائيلي،
هل تراه فعلها كهدية متأخرة لجورج بوش، أم تراه دفع “المقدم” لبيل كلينتون؟! لا أحد يعرف على وجه الدقة، لكن المؤكد أن الملك حسين أقدم – ضمن احتفالات الوداع التي يقيمها لنفسه – على كشف ظهر “شريكه” الفلسطيني خاصة، وسائر “أشقائه” العرب عموماً.
وكان ملفتاً أن يستذكر الملك حسين جده “الأمير” عبد الله وهو يخرج مملكته نهائياً من فلسطين، كأنما ليقول إنه قد أتم “الرسالة”: تقاسمت “الإمارة” الغنيمة مع “الكيان”، وبقي الفلسطيني تائهاً ينتظر زماناً آخر بعدما ضيعه الزمان أو أضاعه فضاع معه.
مصر أولاً، والأردن الآن… هذا كثير على فلسطين!
والسعودية مشغولة باستعادة “أرضها السليب” في “الخفوس” من “المعتدين” القطريين!
والأميركيون يتمددون في الجزيرة والخليج، وعينهم على دولة الإمارات العربية المتحدة، وأملهم أن يكمل جارها الكبير، إيران، تحرشاتهم فيقدم المبرر والذريعة إذ لن يكون من “مغيث” غيرهم،
أما العراق فقد حولته عبقرية حاكمه من “نار يونانية” كان يهدد أن يحرق بها إسرائيل، إلى ضحية لنيران متعددة المصادر تنهشه من الداخل والخارج: فالنار التركية تمتد فيه بأسرع مما امتدت الحرائق في الغابات القليلة التي كانت متبقية في جبل لبنان، ثم إن النيران العرقية والطائفية تحاصر بغداد فتمنح “نيرونها” المتعة وتأخذه النشوة فيطلق نار مسدسه في الهواء!
ترى لماذا استذكر الملك حسين دكتاتورية أخيه وشريكه وحليفه صدام حسين الآن، والآن فقط، وبينما هو يستخرج الفلسطينيين من فلسطين، بينما أخرجهم ذاك من الجزيرة والخليج ودفعهم إلى التيه قبل سنتين، وعلى هامش غزوه الأحمق للكويت؟!
هل انتهى التكليف وأدى الملك دوره الخطير كأروع ما يكون الأداء، فأعاد إلى درج خزانته في غرفة نومه جواز سفره الذي يحمل لقب “الشريف” وأعاد إلى مهج الأحلام أمنيته في استعادة ملك جده في الحجاز، مكتفياً كما تقول العامة بانتقامه الفظيع لابن عمه فيصل الثاني من العراق والعراقيين الذين قتلوه بعد الخلع؟!
المهم أن المفاوضين العرب، المتناقص عددهم بتناسب عكسي مع تعدد موضوعات البحث ومع اقترابها من مواضع الخطر، سيجدون أنفسهم اليوم في واشنطن تحت ضغط منخفض سياسي ثقيل الوطأة اسمه بيل كلينتون.
وقد لا تكون خسارة لهم أن يذهب المنتصر عليهم جورج بوش ، ليس أمراً سيئاً أن يتخلصوا من هذا المثقل بزهو النصر، ولكن مشكلتهم مع الآتي أعظم: فهو يطالبهم، من قبل أن يلتقيهم، بما لا يطيقون أن يعطوا.
إنهم فاقدون لما كان تبقى من توازنهم، لا يعرفون كيف ومن أين يبدأون من جديد،
بينما الإسرائيلي يتصرف وكأنه هو الذي دخل الآن البيت الأبيض، وبات “القاضي” بعدما كان “المدعى عليه”.
الوقع الضائع، مرة أخرى؟!
أخطر الأوقات، على العرب في وضعهم الراهن، هو الوقت الضائع… فمع الوقت يضيع المزيد من أرض فلسطين، والمزيد من رصيد قضيتها ونضالات شعبها، ويضيع أيضاً المزيد من الرصيد الشحيح المتبقي من التضامن العربي،
وحكام السعودية يرفضون القمة العربية، ويشابغون على قمة مجلس التعاون الخليجي،
والعراق يتحول بالتدريج من مأساة إلى كارثة قومية جديدة تهدد ما تبقى ليس فقط من حلم الوحدة بل قبل ذلك من الوحدات الوطنية لكل قطر عربي على حدة،
والخوف أن تتساقط بعض ركائز الصمود المحدود في هذا الوقت الضائع بين العهدين (الأميركيين) ، بحيث لا يجد الطرف العربي الأخير (سوريا ولبنان) ما يفاوض من أجله متى استقر بيل كلينتون على عرش العالم الجديد.
إلا إذا…
ومرة أخرى، لا بد من الرهان على المجهول الذي قد تحوله الزلازل إلى معلوم، يفعل فيغير ما كان مرسوماً.