العقل قد يلغي الفرح، لذا أعطى المواطن العربي، أمس، عقله إجازة قصيرة لكي يتسنى له أن يعيش حالةفرح نادرة وهو يسمع الخير التاريخي الذي طالما انتظره: اختراق الصواريخ العراقية حاجز الأمان الإسرائيلي (بعد طوق النار الأميركي الذي يلف العراق) وأصابتها بعض الأمكنة داخل الكيان الصهيوني!
لقد فعلها، إذن، فألغى المستحيل، مقدماً السابقة: فمنذ إقامة كيان العدو على أرض فلسطين لم ينجح العرب في ضرب “الداخل” الإسرائيلي، ولم يستطيعوا اختراق القشرة الأمنية القاسية إلى العمق.
ظل العدو داخل أرضهم، وظلوا هم خارجها، وكان هو من يطاردهم ويضربهم وبالكاد كانوا يردون عليه متجنبين دائماً أن يورطوا أنفسهم في مواجهة شاملة، لأسباب مفهومة لعل أبرزها افتقارهم إلى الوحدة، بل إلى التضامن، وعدم اطمئنان بعضهم إلى نوايا أشقائهم وشركاء المصير الواحد!
تواضعت أحلامك وطموحاتك القومية وتضاءلت حتى صارت تقنع بسقوط صاروخ “داخل” الأرض المحتلة.
لقد تعد تتحدث عن التحرير الكامل ومن النهر إلى البحر،
لم تعد تقبل سماع، مجرد سماع كلام عن تدمير إسرائيل وإزالة الكيان الصهيوني الدخيل،
وصرت تتنصل ممن قال ذات يوم، أو قيل نقلاً عنه إن العرب سيرمون إسرائيل في البحر،
صار يكفيك ويرضيك أن تسمح لك إسرائيل بأن تعيش تحت ذل احتلالها بسلام!!
ولم تعد تطالب جيوشك بمهام التحرير والمجابهة وإلحاق الهزيمة بالعدو، بل صرت تحيّدها ما أمكن وتتمنى لو يبعدونها عن التداول حماية لها مما أصاب جيش مصر، مثلاً، على يدي السادات من الثغرة إلى الكيلو 101 انتهاء باتفاق كامب ديفيد،
صرت تخاف على جيوشك من التجربة، وتتمنى أن تدخر وتستبقى في الظل انتظاراً لذلك اليوم الموعود الذي غادر الحلم إلى الخرافة.
مع فجر يوم الجمعة 18 كانون الثاني 1991 جاءت لحظة الفرح بالصوت والصورة: شهد العرب عدوهم مرتبكاً، مضطرباً، مذعوراً، لا يعرف كيف يواجه هذا الذي لم يسبق له أن واجهه!
لقد فرحوا بأن يروه مرة، ولو مرة، يعيش حالة الذعر التي طالما عاشوها، والتي لا يستطيعون التخلص من آثارها حيثما كانوا.
ولعل فرحتهم قد تضاعفت وهم يرون الإسرائيليين في صورة وحوش أو مخلوقات غير بشرية بالكمامات الواقية من الغاز.
… كان الإسرائيليون وهم بالكامامات، أقرب ما يكونون إلى الصورة المختزنة في الوجدان والمشاعر. كانوا متطابقين مع “العدو” كما يرسمه التخيل. وكانوا أغراباً وطارئين على المكان وأهله والزمان!
وبالتأكيد فإن ذلك المهندس السوفياتي الذي اخترع صاروخ “سكود” لم يحلم بأن تكون لصاروخه كل تلك القوة التي تجلت، فجر أمس الأول، فحولته إلى نوع من الزلزال امتدت آثاره بعيداً جداً عن موقع انفجاره، ونتج عنه ما هو أخطر بما لا يقاس من الدمار الذي أحدثه في حيفا وتل أبيب،
لقد اخترق هذا الصاروخ السياسات والمواقف كسكين في الزبدة،
والأهم إنه هز النفس العربية هزاً عنيفاً فأسقط عن سطحها الكثير من التراكمات التي كانت تشل الفكر واليد والإرادة.
لم يعد للأحداث بعد سقوط هذه الصواريخ العراقية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة السياق ذاته والدلالات والسوية نفسها التي كانت لها قبل أن تدوي في صحراء الخيبة والإحباط والشوق إلى “نصر” ما، أي نصر في أي مكان، ولو في ملاعب الكرة.
وكادت تتبدل طبيعة الحرب التي تلهب الأرض العربية، وتتبدل أدوار الأطراف المشاركة فيها ومن على الجبهتين.
لقد فتح الصاروخ السوفياتي طاقة للأحلام العربية في ليل الحرب الأميركية المفتوحة منذ ثلاثة أيام، وأتاح مجال التفكير – ولو مجرداً – في احتمالات أخرى غير المقررة علينا جميعاًز
وفي انتظار أن تصبح الصواريخ العراقية الموجهة إلى الكيان الصهيوني أداة تصحيح لمسار الحرب لا مجرد تكتيك دعاوي لإحراج الأطراف العربية المناهضة للنظام العراقي، فلا بد من توفير إجابات مقنعة لبعض التساؤلات المقلقة ومنها:
إذا كان الهدف فلسطين، فعلاً، فلماذا كان اجتياح الكويت؟!
لماذا يدخل إلى المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بكل إمكاناته غير المحدودة، وهو مثقل باجتياحه الكويت، بكل النتائج الخطيرة التي ترتبت عليه؟
وإذا كان قد أخطأ في وجهة الحركة، بداية، فلماذا لا يتخفف الآن من هذا العبء الثقيل والوسخ والذي تسبب في أن يصبح العراق غازياً لأشقائه، في حين إن مقصده المعلن هو تحرير القدس في براثن الاحتلال الإسرارئيلي؟
ولماذا يفرض على المواطن العربي، أن يعيش حالة تمزق بين صورتين لجيشه في العراق تظهره أولاهما وقد زج به في حرب خاطئة في زمانها ومكانها وشعارها وأهدافها، في حين يطل عبر الصواريخ بملامح طيف الأمنية والقادر على تحقيق إنجاز تاريخي؟!
لماذا لعب البليارد: يضرب الكويت فتضربه الولايات المتحدة الأميركية فيضرب إسرائيل!
لماذا هذه الدورة الطويلة المضيعة للجهد والقدرة على التركيز وفرصة النجاح في ساحة العمل القومي؟!
العقل قد يلغي الفرحن
ونحن أحوج إلى الفرح، ولو وهمياً، منا إلى العقل، خصوصاً وإننا لا نستخدمه دائماً،
هي لحظة فرح، إذن، وعلينا أن نعيشها بكل أبعادها، وأن نسرح مع الأحلام التي تتيحها وتفتح أبوابها أمامنا في لحظة نادرة من التاريخ العربي.
على إن طريق الفرح مزروعة بألغام الشكوك والتساؤلات المشروعة، ولذا لا نستطيع أن نشرب كأسه صافية وقد نسينا كل ما كان قبلها وتناسينا كل ما قد يكون بعدهاز
فكثيفة هي الهزيمة في النفس العربية، وثقيلة الوطأة حتى لتحسب أن حاملها قد هلك تحتها،
وعميق هو الشعور بالإحباط واليأس من احتمالات التغيير، حتى لتفترض إن “العربي” قد مات وإنه “ما لجرح بميت ايلام”،
ومعدومة تقريباً هي ثقة المواطن العربي، بحكامه، فإذا ما فاجأه أحدهم بتصرف صحيح أو بقرار سليم، احتاج إلى وقت طويل وإلى تدقيق وتمحيص وتفتيش في ثنايا النوايا قبل أن يضطر إلى الصمت محرجاً وإن بقي صدره يختزن الكثير من الشك والريبة في ما وراء هذه “الرشوة” أو المفاجأة المناقضة لطبيعة صاحبها!
نتيجة لهذا كله فقد تضاءلت حتى تكاد تنعدم ثقة المواطن العربي بنفسه، بقدراته، بكفاءته، بإمكاناته، وقبل هذا كله: بحقوقه!
يتحدث عن الطاقات العربية والثروات الظاهرة والكامنة وكأنها له وتحت تصرفه،
.. ولكنه سرعان ما يكتشف عبث المكابرة، إذ يرى هذه الطاقات والثروات تحت تصرف الغير وفي خدمته، واكثر من هذا: إنها موظفة ضد المواطن العربي وضد مصالح الأمة العربية وفي ما يخدم أعداءها مباشرة وبشكل صريح،
ربما لهذا كله صار المواطن العربي مثل القديس توما الأكويني لا يصدق حتى يغمس يده في دم الجرح.
وفي موضوع مواجهة العدو الإسرائيلي فإن المواطن العربي لم تعد تخدعه العمليات التلفزيونية، كما إنه بات يسخر من البيانات والخطابات والتصريحات المحشوة بالتهديدات الفارغة أو بوعود التحرير وإقامة الصلاة في القدس الشريف.
صارت أحكامه مرجأة إلى ما بعد التنفيذ، بل وإلى ما بعد التدقيق في النتائج المباشرة وتلك التي ستظهر آثارها بعد حين!
صارت فلسطين سره ولم تعد رايته المشرعة لكثرة ما رفعت رايات مزورة باسم القضية المقدسة، ولكثرة ما تحمل من صدامات ومن خيبات أمل ومن أعمال تزوير كادت تشوه قيمه وتفسد علاقته بالمبادئ والأفكار العظيمة وأهداف النضال المجيد.
من هنا يداري المواطن العربي فرحته منتظراً تصحيح المسار،
فلكي نستطيع التقدم نحو فلسطين علينا أن نوقف أولاً الحرب الأهلية العربية،
وفي قلب الحرب الأهلية العربية وبفضلها يعيش العدو الإسرائيلي.
وبسببها نتيجة لما تمتد فوقنا راية الهمينة الأميركية،
والفرح مؤجل في انتظار توحيد الجهد وتركيز الاتجاه نحو الهدف القومي الأعز.