مع كل يوم يمر، يسحب من سوق التداول المزيد من الأسئلة التي موضوعها الجلسة الثانية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، والنصاب، وبورصة المرشحين وحركتها صعوداً وهبوطاً في ضوء حركة الصراع بين “الناخبين” صغارهم والكبار.
السؤال الباقي والذي بات يحتل مساحة الاهتمام، لدى العامة كما لدى الخاصة هو:
-ماذا بعد 23 أيلول؟!
والجواب العفوي الذي يردده “العارفون”:
-السبت 24 أيلول، ثم الاحد 25 أيلول، فالاثنين 26 أيلول وهكذا دواليك!
-لن يتوقف الزمن، وستشرق بالتأكيد شمس ذلك اليوم في موعدها بالضبط، ولسوف تغيب ذاهبة إلى مستقر لها، فينام الذين استيقظوا معها فعملوا وكدوا وتعبوا وأحبوا وتناسلوا وأكلوا وشربوا وتمازحوا وتضاحكوا، وكذلك الذين يأخذهم الهم والغم إلى بحر الدموع واللوعة…
ولن تتوقف حركة التاريخ والإنسان والطبيعة. ستقوم القطارات والطائرات والسفن وسيارات النقل في مواعيدها، في مختلف أرجاء الأرض، وسيكتب الكتاب ويقرأ القراء، ويصرح الساسة والقياديون فلا يقرأ أحد، وستبث شاشات التلفزيون ومحطات الإذاعة برامجها العادية ومنها الأخبار، وهنا فقط قد يرد ذكرنا، أرضاً وشعباً ومؤسسات، وتحت عنوان “لم يحدث اليوم في بيروت…”.
كل ما في الأمر إن جملة في الوصف ستضاف إلى تعريف لبنان، إذ على الأرجح أن يقال: يعيش لبنان يومه الأول بلا رئيس للجمهورية، وهو البلد الذي يعيش منذ سنوات في ظل حرب أهلية مفتوحة ألغت دولته والحكم بمؤسساته المختلفة فيه، وآخرها مؤسسة الرئاسة!
ولأن الزمن وعواصم التأثير ومراكز القرار وحركة التاريخ والإنسان والطبيعة، ولأن القادة والسياسيين والمراجع المسؤولة لأن كل أولئك غير معنيين بهموم المواطن وأحزانه وافتقاده الأمن والرغيف وشعور الاطمئنان إلى يومه وغده، فإن ضجيج الحياة سيبتلع هذا “التفصيل”، وستدور التعليقات حول: ماذا بعد خلو سدة الرئاسة؟! كيف سميلأ الفراغ ومن سيملأه وحتام؟! وها هي نسب الربح والخسارة للأ”راف المعنية؟!
… والأطراف المعنية، محلياً على الأقل، تتدبر أمورها في أي حال، وهي قادرة على التكيف وبسرعة بالغة مع الواقع الجديد واكتشاف وجوه النفع والفائدة فيه.
بل إن أكثرية هذه الأطراف المعنية باشرة الإفادة فعلياً، من مثل هذا الاحتمال الذي يخدم مصالحها واستمرار نفوذها وتسلطها على مقدرات البلاد والعباد.
فرئيس الجمهورية الذي سينتهي “عهده” الميمون عند منتصف تلك الليلة المباركة، ليلة الخميس – الجمعة 22/23/9/1988، يراهن على حسن طالعه الذي حول أحلامه وأوهامه المستحيلة إلى واقع معاش… فإذا كان حظه الذي يفلق الصخر قد حمله، مرة، إلى سدة الرئاسة بينما هو يعد العدة للهجرة إلى حيث لا يراه أحد ولا يعرفه أحد، فما المانع أن يحمله كرة أخرى إلى المنصب الفخم ذاته، بعد أن يحوله من “المشكلة” و”السبب في التأزم” إلى الحل أو المخرج منها؟!!
وأما “القوات اللبنانية”، وما ماثلها من الميليشيات وزمر المسلحين والعصابات الطائفية التي اقتطعت من البلاد “دويلات” لها تحكم فيها وتتحكم، لاغية وجود الدولة ومؤسساتها، ناهبة مواردها وأرزاق المواطنين، معطية ذاتها بعض حقوق الله (إذ تحيي وتميت، تمنح وتمنع، تعطي من تشاء بغير حساب الخ)،
… وأما هؤلاء جميعاً فسيكون “الفراغ الدستوري” عيدهم الكبير، والموسم الأخصب بعطاياه، ولكنهم سيعوضون الشعب الرئيس بعشرة، بعشرين، بمائة.. فيكون لكل جهة رئيسها وحكومتها وجيشها وجباتها والعلم، بحيث يكون لكل مواطن “ولي أمر” يدير شؤونه ويرعى مصالحه ويصون له “سيادته” والاستقلال وكرامة طائفته التي هي فوق الأوطان والقوميات جميعاً!
… ولسوف يصبح مطلوباً إعادة فتح “الدكاكين” جميعاً، وتنهمر على المناصرين والمحازبين الدولارات والدنانير والفرنكات والدوتش ماركات وسائر العملات نهراً من ذهب، وسبحان الواهب إذا وهب…
“سلة العملات” عائدة، إذن، وليالي زمان سترجع، وما كان أحلاها، فـ “دقي يا مزيكة”، و”رقصني يا جدع ع الواحدة ونص”… طالما إن الوحدة الوطنية لم تجلب إلا الفقر والنكد والحرب الأهلية!!
-ماذا بعد 23 أيلول؟!
-السبت 24 أيلول، ثم الأحد 25 أيلول فالاثنين 26 أيلول وهلم جرا!
سيقول البعض، مزهواً بنصره الرخيص: – يكفي إننا طيرنا النصاب، وعطلنا الانتخاب!
وسيقول البعض الآخر من خلال تحسره على انهيار حلمه في وطن: – إلى جهنم الرئاسة والرئيس، ولكن ماذا عن “الجمهورية”، ماذا عن “مواطنيها”، ماذا عن المستقبل؟!
أيكفي “النصر” الأميركي قوتاً للمواطنين وضماناً لمستقبلهم؟!
أم يجيء التعويض من انتصار الليكود في فلسطين المحتلة، واستتباب الغلبة للتيار الأكثر تطرفاً بين الإسرائيليين بحيث يقضى على انتفاضة شعب فلسطين المجيدة التي أربكت حسابات الجميع وهزت الأرض تحت أقدام المساومين والمتخاذلين والمنحرفين أنظمة كانت أم منظمات؟!
أم ترى الترياق سيأتي فعلاً من العراق؟!
وماذا سيصيب اللبنانيين حتى لو تم هذا كله؟!
هل ستنتهي حروبهم المفتوحة أم هي ستطول إلى ما لا نهاية بحيث يحترق في أتونها آخر ما تبقى من أسباب وجودهم، كياناً ودولة وشعباً وارضاً ومؤسسات؟!
هل سيسترد وطنهم الممزق وحدته، وتستعيد “ليرتهم” قوتها، وتزدهر جامعاتهم وأنديتهم ومنتدياتهم وسائر علامات “التفوق” الحضاري التي كانوا بها يتباهون؟
هل يعود الذين هاجروا، وهل يرجع إلى قراهم الذين تم تهجيرهم قسراً وقهراً، أم ترى ستتزايد أعدادهم بحيث لا يبقى أحد في “مرقد العنزة” إلا العاجز عن السفر أو الممنوع تهجيره حرصاً على “اليد العاملة الرخيصة”؟!
-ماذا بعد 23 أيلول؟!
يجيبك المستر سمبسون أو أي”مستر” آخر:
-أبداً، بعد 23 ايلول سيكون يوم السبت 24 أيلول، ثم الأحد 25 أيلول، فالاثنين 26 أيلول وهكذا دواليك.
ويوضح غيره ما ليس بحاجة إلى إيضاح.
-ستستكمل أسباب القطيعة حتى نتهاها، فيكون للبلد حكومتان بدلاً من حكومة، ولا رابط بينهما ولو عبر “الهيئة الانتخابية” المقيمة في مقرها المؤقت بقصر منصور، أو عبر “المراسيم الجولة” التي تؤكد متانة وحدة المصالح… الوطنية، وستنقطع الشعرة الأخيرة للشرعية الممثلة بمقام رئاسة الجمهورية (بغض النظر عن شخص الرئيس)..
ويتدخل آخر فيهتف مستنكراً:
-وماذا فيها؟! هي هي نهاية الكون؟! إن 23 أيلول مجرد موعد دستوري، لا هو موعد الحل ولا هو التوقيت المحدد لانتهاء الأزمة وتوقف الحرب، وبزوغ فجر السلام الموعود، ما كان قبله سيكون بعده. الفرق الوحيد إن الفراغ سيشمل، أيضاً، موقع رئاسة الجمهورية. صحيح إن انتخاب رئيس كان سيهدئ الجو نسبياً، ولكنه أقل مما يجب لحل الأزمة المستعصية، وصحيح إن تذعر الانتخاب سيزيد من وتيرة الانهيار، لكن ذلك كله بين النتائج وليس بين الأسباب!
ماذا بعد 23 أيلول؟!
ويتسابق على الاجابة طابور المرشحين للرئاسة، والفرحة تطل من عيونهم وتفترش وجوههم الناعمة جداً واللامعة تحت طبقات “الكريم”:
-أبداً، بعد 23 أيلول يجيء السبت 24 أيلول، ثم الأحد 25 أيلول، فالاثنين 26 أيلول وهلم جرا.
ويشرح لك أغزرهم فصاحة:
-لا يهم أن يتأخر الانتخاب عن موعده الدستوري، المهم أن يتم في جو صحي لا يحكمه التوتر أو التشنج الطائفي. فالجلسة الناقصة النصاب أطاحت ببعض المرشحين الذين جعلتهم ظروف الصراع في موقع ممتاز، فقطعوا الطريق على المرشحيون الطبيعيين.. أما بعد هذا الموعد فسنكون جميعاً سواسية كأسنان المشط وسيكون الفوز للأكفأ والكفاءة أنواع وأصناف وأرقام، كما تعلمون.
ويزيد أغناهم علماً وخبرة فيقول:
-سيتحمل الشعب مزيداً من الآلام، لكن ولادة الربيع تاتي عبر الألم.. ومن الضروري أن يتم تعديل ميزان القوى الحالي لكي يصبح الانتخاب ممكناً! وماذا يهم أن تتم الانتخابات عندما بعد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وبعد جلاء الموقف في الخليج ومعرفة إلى أين وبماذا ستنتهي الانتفاضة في الضفة الغربية وغزة؟!
-ماذا بعد 23 أيلول؟!
-السبت 24 أيلول، وبعده الأحد 25 أيلول، فالاثنين 26 أيلول الخ..
لكن غداً يوم آخر، فمن قال إن ما يجوز الجمعة يجوز السبت؟ ومن قال إن رئيس الأحد هو بالضرورة رئيس الاثنيثن؟!
وإذا كان “منطقياً” أن ننتظر كل تلك الأحداث في الخارج، فلماذا لا نعيد النظر في الداخل؟!
لماذا الرئيس أهم من الرئاسة، والرئاسة أهم من النظام، والنظام أهم من الكيان؟
لماذا طائفة الرئيس أهم من كفاءة الرئيس. ولماذا كل هذه الخطورة لموقع الرئاسة وكأنها مصدر الحياة وعلة بقاء النظام والكيان؟!
وأين الشعب من هذا كله؟!
.. وهل ترى موعده مع “استحضار” ذاته، وإمساك الأمر بيده، هو ذلك الموعد نفسه: يوم الجمعة 23 ايلول 1988، فيملأ هو فراغ العاجزين عن أن يكونوا رؤساء؟!
الجواب، على طريقتهم، سيتبلور أكثر فأكثر ابتداء من يوم السبت 24 أيلول.
فهل يستدرك المستدركون أم تراهم يدفعون البلاد إلى الهاوية وعيونهم مفتوحة؟!