موفق هو القرار الذي اتخذته مصر بالامتناع عن التجديد لقوات الأمم المتحدة المشرفة على تنفيذ اتفاق الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية في سيناء.
موفق هو في توقيته ، أولاً، ثم في تناسبه مع محدودية ما يستهدفه، أي تحريك الجمود الكامل للوضع في “الشرق الأوسط”، هذا الجمود الذي وصل إلى حد الشلل ودفع بالمنطقة كلها إلى حافة الضياع نتيجة لإصرار الحكم في مصر على الركض وراء سراب التسوية السياسية وتعهدات “العزيز هنري”، مهما كان الثمن، ومهما كان المردود!
لكن عيب هذا القرار التكتيكي إن مداه قصير، وإن النتائج المترتبة عليه يحكمها – في النهاية – الموقف الاستراتيجي المصري.
إن القرار يطرح، على الفور، سؤالاً كبيراً من نوع: حسناً، وماذا بعد؟
ذلك إنه بطبيعته ليس تحركاً قائماً بذاته، وليس مرحلة جديدة. إنه خطوة. إنه مدخل إلى ما يفترض أن يستصدر من قرارات أخرى مكملة… وكثير من القرارات المطلوبة مستحيلة الإصدار أو غير وارد التفكير فيها، الآن على الأقل.
بالطبع، هو ليس قرار عبد الناصر في 14 أيار 1967 بطلب سحب قوات الطوارئ تمهيداً لعودة القوات المصرية إلى سيناء كلها، وشرم الشيخ بما يمكنها من المرابطة على حدود فلسطين المحتلة وإغلاق مضائق نيران في وجه الملاحة والسفن الإسرائيلية.
أي أنه ليس القرار السابق والممهد والمهيء نفسياً لإعلان الحرب، أو حتى للتهديد بها.
فالمعنيان هنا بالقرار المصري هما رئيس الولايات المتحدة الأميركية ووزير خارجيته أساساً، ومن خلفهما إسرائيل.
والرئيس فورد، وقبله كيسنجر يعرفان يقيناً إن السادات ليس بصدد حديث عن حرب. كما إن إسرائيل تضع احتمال “الحرب المصرية” في آخر قائمة الاحتمالات، لأن الحرب – في النهاية – قدرات وإمكانات سياسية واقتصادية وعسكرية، والحرب ثمرة إعداد وتدريب وحشد وتسليح وتعبئة شعبية، وليست مجرد تكتكة سياسية محدودة الأفق ومحكومة النتائج سلفاً.
هذا لا ينفي ولا يلغي احتمال أن يتحول القرار المصري التكتيكي، تحت ضغط ردود الفعل عليه، خاصة إذا ما جاءت من طبيعة ملائمة، إلى ممهد ومدخل لتغير نوعي في الموقف المصري، ومن ثم في الموقف العربي العام. لكن هذا متروك للمستقبل وللتطورات.
فمصر المقطعة علاقاتها بالسوفيات، المصدر الرئيسي والأهم إذا لم نقل الوحيد لسلاح جيشها، خاصة الحاسم منه،
ومصر التي تصرفت منذ يوم 22 أكتوبر (تشرين أول) 1973، وكأن حرب رمضان المجيدة هي آخر الحروب في التاريخ،
ومصر المدمرة صلاتها بحليفها الاستراتيجي الأول، بحكم الضرورة والواقع الجغرافي والعسكري والاقتصادي، أي الجمهورية العربية الليبية،
ومصر المهتزة والمتعثرة والمتفككة روابطها بسائر أشقائها العرب، وبالتحديد المحارب منهم أو القادر والمستعد للإسهام في الحرب، وبالتحديد سوريا والمقاومة الفلسطينية،
ومصر التي لم تجد من تزكيه في لبنان وتمتدحه غير بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب الغارق حتى أذنيه في حرب من طبيعة إسرائيلية باستهدافها المقاومة والحركة الوطنية في لبنان،
مصر هذه هي مصر غير محاربة، على الأقل في المدى المنظور.. خصوصاً إذا ما تذكرنا أوضاعها الداخلية، السياسية منها والاقتصادية الانفتاحية والإعلامية، حتى لا ننسى شلة السوء المهيمنة على الصحافة المصرية.
رغم كل هذا، وبعد كىل هذا، يظل القرار موفقاً كإجراء تكتيكي وكورقة للضغط على “الأصدقاء” الأميركان، علهم – أخيراً – يضغطون على إسرائيل فتظهر استعداداً للتراجع يغطي التراجعات العربية المطلوبة لاتمام “التسوية”، ما قدم منها فعلاً وما هو مطلوب بعد.
أما “التحول” وأما “الموقف الجديد” فلا يزال في ضمير الغيب، في موقع الأمل، ولكنه إلى الحلم أقرب، والبعض يقول إنه أبعد من الحلم وأصعب.
في أي حال، فالعرب جميعاً مع مصر عندما تكون مصر مع نفسها. والعرب جميعاً يقتربون أكثر فأكثر من مصر بمقدار ما تقترب مصر من دورها وموقعها الطبيعي ومسؤولياتها ، وباختصار من معركة التحرير.
وبانتظار ذلك، سيظل التبدل في المواقف محدوداً ومحكوماً بسقف المبادرة المصرية الحالية.