تقول بنو العباس: هل فتحت مصر؟
فقل لبني العباس قد قضي الأمر!
… فلا تكثروا ذكر الزمان الذي خلا
فذلك عصر قد تقضى، وذا عصر..!
“ابن هانئ الأندلسي”
طوابير، طوابير سينتظمون هذا الصباح في شوارع قاهرة المعز وساحاتها الفسيحة، وكالعادة ستنظم “الأجهزة” كل شيء:
شهداء 1948، من المطار وعلى امتداد شارع العروبة،
وشهداء الغارات على معسكرات جيش الاحتلال البريطاني عند المسجد – الضريح في منشية البكري،
وشهداء العدوان الثلاثي في شارع رمسيس بحيث يحجبون أصحاب الجلابيب الزرقاء المحتشدين في محطة باب الحديد،
أما شهداء عدوان 1967 فيقسمون إلى كراديس: ضحايا الطيران الإسرائيلي في حديقة الحرية، وضحايا المعارك القليلة في غزة والعريش وخان يونس في ميدان التحرير، وضحايا العطش والتيه في سيناء ينشرون في صفين على امتداد كورنيش النيل ويتجمع من لا زالوا في حكم “المفقودين” عند مبنى الجامعة العربية،
وتعطى قلعة صلاح الدين الأيوبي لشهداء حرب الاستنزافن بمن فيهم أطفال أبو زعبل ومدرسة بحر البقر.
ويتولى شهداء العبور وحرب أكتوبر المجيدة حراسة موكب الضيف فتكون لهم اختصاصات “بعثة الشرف”،
ويقف الشهداء العرب، من غير المصريين، وفيهم الفلسطيني والليبي والجزائري والمغربي والسوداني والكويتي، على تأمين راحة الزائر الكبير في مقر إقامته، تأكيداً للكرم العربي الخالد.
ثلاثون ألف شهيد؟! أربعون ألفاً؟ مئة ألف سقطوا على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة؟
لا يهم العدد . المهم أن “السجادة” ستكون حمراء كما لم تكن في أي يوم من قبل، وكما لن تكون أبداً.
والمهم إن هؤلاء جميعاً قد جربوا حتى أتقنوا الهتاف باسم قاتلهم،
ولسوف يكون الهتاف منغماً، فالفرقة الموسيقية يقودها محمد عبد الوهاب شخصياً وقد ارتدى البذلة التي صارت “خلعة” من السلطان يهبها لمن أطاع فغنى فأطرب،
انس الماضي. ما فات قد مات. هذا عصر آخر، ولقد تقضى عصر” “إنده على الأحرار”، و”وطني حبيب الوطن الأكبر” و”دعاء الشرق” و”الحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق”!
هذا عصر السلام والحب “والطشت قللي يا حلوة ياللي.. قومي استحمي”!
عص البحبوحة والرخاء وهناء العيش و”السح دح انبو، الواد طالع لأبوه”!
عصر الأميركان وأشرف مروان وعثمان أحمد عثمان و”ما اشربش الشاي اشرب كازوزه أنا”.
عصر حسني مبارك وبطرس بطرس غالي و”العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو”.
وهل ثمة فرق يذكر بين أحمد عدوية وطه حسين، أو بين رفاعة الطهطاوي ومحسن محمد، أو خاصة بين محمد عبده وعبد الرحمن البيصار شيخ الأزهر.
أما سيد درويش فمعزز مكرم، وها أن نشيده العظيم، نشيد ثورة 1919، يعزف في استقبال غاصب سيناء وقاهر مصر وقاتل فلسطين مناحم بيغن… فماذا بعد هذا من ضروب التكريم؟!
بيغن في القاهرة!
هذه كارثة فعلاًن لكنها تصبح مفهومة متى تذكرنا إن السادات في القاهرة!
فبيغن يعرف أن لا مكان له في مدينة الألف مئذنة والألف عام وآلاف الأبطال عبر التاريخ، والذين ما استحقوا بطولتهم إلا لأنهم قاتلوا أمثاله وأمثال مضيفه،
إن القاهرة بهوائها ونيلها، ببشرها وشجرها، بالثمانية ملايين الذين لا يجدون ما يكفيهم قوت يومهم، بنصف المليون من سكانها المحتلين المقابر في قائدبيه، بالنائمين على الأرصفة وفي المساجد وفي الحدائق العامة، هذه القاهرة، لا يمكنها إلا أن ترفض بيغن.
القاهرة ذات الجامعات الأربع وعشرات آلاف الخريجين كل عام المشردين في عواصم العالم البائعين عقولهم وكفاءاتهم للآخرين، أو العاملين في مطابخ المطاعم وفي المقاهي ومحطات البنزين.
هذه القاهرة، بغض النظر عن التاريخ، تدرك أن بيغن مثله مثل السادات مشكلة إضافية لها وليس حلاً لأي من مشاكلها المعقدة والكثيرة.
بيغن، كالسادات، ليس الخبز وليس الكرامة، بل هو العكس صريحاً وفظاً وموجعاً.
وبيغن ، كالسادات، ليس السلام. إنه الذل، ولأسباب بحت مصرية، فمصر دفعت أكثر من العرب مجتمعين في الحروب التي شنتها عليها إسرائيل.
بيغن في القاهرة!
هذا أمر مفجع، لكنه ليس نهاية الكون.
فبيغن في القدس، في حيفا، في يافا، في بيت لحم، في الخليل وأريحا، في الجولان، في الجنوب.
إن الأمة مغتصبة والقاهرة بعض هذه الأمة.
فلنقاتل السادات والساداتيين، فنهزم بيغن وسائر المغتصبين.
فلنقاتل الوجود الأميركي، النفوذ الأميركي، التسلط الأميركي، النهب الأميركي، الاستعمار الأميركي فنهزم السادات وسائر الذين باعوا الأمة في سوق النخاسة.
بيغن في القاهرة…
لكنه ما وصلها إلا لأنه موجود فينا، في كل منا، أما مباشرة وأما بواسطة تجار الهزيمة والمتسلطين علينا باسمها،
وإذا شئنا أن نطرد بيغن من القاهرة فلا بد أن نطرده أولاً من نفوسنا، وليس إلا بإرادة القتال نطرده.
بيغن في القاهرة! ليس هذا “وداعاً للسلاح”، بل هو دعوة إلى السلاح.
و… والله زمان يا سلاحي، اشتقت لك في كفاحي
انده وقول أنا صاحي، يا مصر والله زمان!