من حق “الصدر الأعظم” أن يبتهج وهو يتبلغ أن “قاضي القضاة” قد حكم بأن “الباب العالي” الأميركي دائماً على حق، وإنه لا يخطئ ولا يجوز أن ينسب إليه الخطأ، وإنه مصدر العدل والعدالة ولا يجوز نقض أحكامه أو الجدل أو الطعن فيها.
لقد انتصرت أقوى قوة في الكون (وبالقانون!!) على واحدة من أصغر الدول فوق سطح الكرة الأرضية، ولكنه نصر سيكون سابقة قانونية يرجع إليها “الباب العالي” لتأديب كل من تسول له نفسه مناقشة القضاء والقدر ناهيك بتحدي الإرادة الأميركية!
انتصر “الكاوبوي” على “الراعي” و”رسول الصحراء”.
انتصر “رجل المخابرات” و”الاحتكارات” و”التروستات الصناعية” على “الثوري” وصاحب المطامح الفكرية والقائل بالنظرية العالمية الثالثة والحالم بالوحدة العربية.
انتصرت الأساطيل والقنابل النووية والذرية والهيدروجينية والصواريخ الموجهة بالليزر على “الخيمة” و”الناقة” و”النخيل” والمحاولات الجادة التي بذلها “بدوي” فرض عليه التخلف دهور للحاق بالعصر واسترداد شرفه المهدور وإثبات جدارته بالكرامة والعزة والتقدم الإنساني.
انتصر الوحش على الإنسان، وهزمت الـ “ب – 52” دماء ضحاياها، وأسقط الجلاد ضحيته الأعزل بالضربة القاضية.
على أن الجلاد كان يحمل شارة “الشريف” على صدره، وما أطلق رصاص حقده الأعمى إلا بعدما قالت “هيئة المحلفين” التي تضم رجالاً “محترمين” ينتمون إلى كل الأمم والأعراق والألوان أن “المتهم” مذنب بكونه أضاء الشمس!
ولقد تم إشهار الحكم باللغات كافة، وبينها العربية بطبيعة الحال، وبلسان لا عوج فيه ولا لحن ولا لكنة أعجمية!
… لم يعد أمام شعب ليبيا إلا الاستسلام والرضا بالموت جوعاً وعطشاً خلف حدوده المكهربة المحرم اختراقها على الأنس والجان، وكذا على الحيوان والطير!
ولقد سبق لهذا العربي الليبي أن عاش ردحاً من زمان بؤسه خلف الأسلاك الشائكة، يحاصره جند المحتل وتخلي الأخوة المستضعفين (إلا بعضهم)، وتحصده آلة الموت الجهنمية التي حملها المستعمر “الصليبي” الغربي في بلاده في ما وراء البحار واستخدمها لإثبات أن ليبيا المسلمة صحراء بلا أهل وإنها مجرد الشط الرابع لإيطاليا الكاثوليكية… الفاشية!
وبين 1911 و1932 قاوم أولئك البواسل المتروكون للربع والرصاص والجوع والعطش، وقاتلوا بكل ما ملكت إيمانهم… أحرقت قراهم فلم يستسلموا، بقرت بطون نسائهم وسملت عيون أطفالهم وسحل رجالهم، واقتيدت عشرات آلاف الأسر إلى معسكرات اعتقال جماعية في بطن الصحراء، وطورد مجاهدوهم في الجبل وعلى الساحل، في البيداء والنجوع والقرى والمزارع، تم إجلاؤهم عن المدن بالقوة وشردوا في الفيافي والقفار ليهلكوا كمداً حيث لا نصير ولا معين يساعد في دفن جثث الأموات.
خلال عشرين سنة فقط من الديموقراطية الغربية الوافدة تحت أعلام الصليبية الجديدة تمت – وبنجاح مذهل – إبادة نصف الشعب العربي في ليبيا، وهكذا أمكن استعباد النصف الآخر،
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية بمستعمرين جدد تحت أعلام صليبية أخرى يقتتل فرسانها في ما بينهم على أرض غيرهم… وكانت النتيجة إن تم تقسيم ليبيا بين ثلاثة مستعمرين: الفرنسيين في الجنوب (فزان وما جاورها بمحاذاة حدود الجزائر وتونس وتشاد) والطليان في معظم البلاد، والإنكليز في الشرق (على حدود مصر، في طبرق وما جاورها من ميدان المعارك الهائلة التي انتصر فيها مونتغمري البريطاني على رومل الألماني).
… وبعد الثلاثة وإضافة إليهم جاء، في وقت لاحق، الاستعمار الجديد، فاتخذ الأميركي من ضاحية في ظاهر طرابلس قاعدة ضخمة لطيرانه وعسكره (قاعدة هويلس)،
الطريف أن ليبيا تحتفل سنوياً بثلاثة أعياد للجلاء أو الإجلاء: الأول في بدايات تشرين الأول، عيد إجلاء المستوطنين الاستعماريين الطليان، والثاني عيد إجلاء المستعمرين البريطانيين عن قاعدة العظم التي صار اسمها قاعدة جمال عبد الناصر، قرب طبرق، والثالثة عيد إجلاء المستعمرين الجدد – الأميركيين عن قاعدة هويلس التي صار اسمها قاعدة عقبة بن نافع ثم أطلق عليه اسم طفلة ليبية قتلها هؤلاء “معيتيقة”.
دار الفلك بالعرب وبليبيا دورة كاملة، وها هو التاريخ الاستعماري يعيد نفسه وإن بذرائع جديدة.
هل انتهى التاريخ فعلاً،
أم إنها نقطة البداية الجديدة في هذا العالم الجديد الذي يحاول “السيد” الأميركي إعادة تشكيله الآن، مخضعاً كل ما فيه لإرادته المطلقة؟
بين ملامح التاريخ الأميركي لعالم نهايات القرن العشرين سقوط الأمم المتحدة بمؤسساتها كافة.
لقد دار الزمان على العرب وسائر شعوب العالم الثالث ففقدوا آخر حائط مبكى كانوا يلجأون إليه للتظلم والتحسر والتفجع والتنفيس عن كربتهم!َ
استعادت الولايات المتحدة الأميركية، باسم الغرب ولحسابه، المنظمة الدولية التي ظلت على امتداد ربع قرن أو يزيد (من منتصف الخمسينات حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات) ساحة حركة ومجال نشاط دبلوماسي ممتاز للشعوب المستضعفة والمقهورة المسترجعة كرامتها حديثاً والمستشعرة بشيء من الزهو لنجاحها في إجلاء مستعمرها الغربي القديمز
كانت الأمم المتحدة أرض صراع بين القوى العظمى، وكان هذا الصراع يعطي هامش مناورة لدول العالم الثالث التي كانت أفادت من اختلال الجبابرة لبناء مؤسساتها وتجمعاتها الإقليمية والدولية (عدم الانحياز) التي شكلت في فترة قوة ضغط جدية على الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، لاسيما بعدما استكملت وراثة دول الغرب الاستعماري العتيقة (بريطانيا، فرنسا، البرتغال، هولندا الخ).
اليوم يبدو جلياً أن الشعوب المستضعفة قد عادت إلى حال اليتم المطلق، فهي بلا معيل ولا نصير ولا من يهتم بمستقبلها أو بوجودها (ناهيك بحقوقها) فيحميه.
صار العالم جزيرة أميركية أو يكاد،
وصارت الأمم المتحدة، بمؤسساتها المختلفة، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، من بعض دوائر وزارة الخارجية الأميركية… ولعلها من بين تلك الدوائر تخص بشرف التكليف بما يمكن اعتباره “المهمات القذرة” ربما بدافع الانتقام من هذه المنظمة الأممية لخروجها في فترات من تاريخها على “السيد الأميركي”، أو لتأمين غطاء الشرعية الدولية للهيمنة الأميركية الكاملة.
وها هي محكمة العدل الدولية تعود هي الأخرى إلى بيت الطاعة الأميركي.
وصحيحة هي الحجة الشكلية التي تذرع بها أصحاب الشعر الأبيض في لاهاي لرد الشكوى الليبية ورفض النظر فيها: فالمحكمة متفرعة عن أصل هو الأمم المتحدة، وهي بالتالي لا تستطيع قراراً صادراً عن “حكومتها” أي مجلس الأمن الدولي.
لكن الموضوع المطروح سياسي أساساً، وله بطبيعة الحال جوانبه القانونية، ثم إنها قضية مبدئية وإن كانت لها جوانبها الشكلية،
والقضية يقرر فيها أصحابها، مهما طال الزمن، والأرض لأهلها بشهادة التاريخ (الحديث لا القديم).
ويبدو أن على ليبيا (وعلى كل شعب عربي ومستضعف آخر) أن يصطنع بدمه عيداً جديداً لإجلاء المستعمر الجديد، وأن يبني بلحم أجياله الجديدة مؤسسة دولية لإقامة العدل وإنصاف المظلوم من ظالمه مهما علا بابه وعظم صدره.
والكفاح دوار…