أخشى ما يخشاه اللبنانيون، في ضوء التطورات المتسارعة لجهة مشروع التسوية الأميركية العتيدة للصراع العربي – الإسرائيلي، أن يفقدوا ما بيدهم فعلاً، أي القرار 425، من دون أن ينالوا أية حصة مجزية عبر المؤتمر الذي ما زال بلا اسمن إلا لمن يتبرع له بالسلام اسماً وهوية.
وبغض النظر عن حقيقة إن اللبنانيين قد فوجئوا بقرار حكومتهم الالتحاق بالمؤتمر (الدولي أو الإقليمي؟) الذي كان الحكم – على اختلاف العهود منذ 1967 وحتى اليوم – يعتبر إنه غير معني به إضافة إلى أنه لم يكن في أي يوم مدعواً بالفعل إليه،
وبغض النظر أيضاً عن حقيقة إن الحيثيات “الجديدة” التي قدمتها الحكومة لتبرير الانقلاب في موقفها، تقوم على نوع من التشاطر اللبناني يحاول تلفيق مزاوجة مستحيلة بين القرارات الدولية الخاصة بما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”، وبالتحديد بين القرارين 242 و338 وبين القرار الخاص بالاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وهو قائم بذاته ونصه كأصرح ما تكون النصوص، أي الـ 425،
وبغض النظر أخيراً عما في هذا التنازل اللبناني من خدمة مجانية يعرف اليهودي كيف يوظفها ضد لبنان كما ضد سائر الأطراف العربية المعنية، من غير أن ينال لبنان تزكية خاصة من راعي مشروع المؤتمر، أي الولايات المتحدة الأميركية.
بغض النظر عن هذا كله فإن “الربح” المحتمل، إذا افترض أحد أن ثمة احتمالاً بربح من أي نوع في مفاوضة طرفها الآخر إسرائيلي، لا يعادل بأي حال نسبة واحد في الألف من الخسارة المؤكدة من سقوط القرار 425 من اليد اللبنانية.
ولعل هذا القرار تحديداً كان الدليل القاطع، وأكثر بما لا يقاس من القرارين 242 و338، على ازدواجية الموقف الأميركي، وبالتالي على الانتقائية والانتهازية والتعسف في توظيف “الشرعية الدولية” لخدمة المصالح الأميركية (والغربية) وإسرائيل منها في الطليعة، ودائماً على حساب العرب، “الصديق” منهم و”الخصم” إلى ما قبل حرب الخليج، ثم الذي تنكب موقع “الحليف” الاضطراري فيها تحت ضغط لعنة الخطيئة التي ارتكبها حاكم العراق، وتبرؤاً من تبعاتها الجسام.
فالقرار الصارم، المحدد، الدقيق بما لا يسمح بأي تأويل، أو تأجيل، لأنه ينص على إلزام إسرائيل بالانسحاب “فوراً” ومن دون قيد أو شرط، والذي أمكن استصداره عبر ألغام “الفيتو” و”التحفظات” والاستدراكات اللاغية، مهدد الآن بأن يسحب من التداول عن طريق دمجه بالقرارات الأخرى الخاصة بأزمة المنطقة،
إن الولايات المتحدة الأميركيةن القطب الأوحد في الكون، والمنتصر بلا قتال تقريباً في “أكبر حرب” منذ الحرب العالمية الثانية، والحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني، قد “عجزت” عن استنقاذ مدينة جزين من براثن الاحتلال الإسرائيلي، برغم إن حكم “الجمهورية الثانية” قد نفذ معظم ما تضمنه دفتر الشروط، لاسيما لجهة السلاح الفلسطيني،
فهل يمكن الافتراض إن من عجز عن إعطاء القليل، أي جزين، سيعطي لبنان كل أرضه المحتلة العام 1978، أي القرار 425، لمجرد إن هذا اللبنان قد وافق متبرعاً على حضور مؤتمر مشكوك بانعقاده، وشبه مقطوع الأمل في وصوله إلى نتائج مرضية، ثم إنه غير مدعو إليه وغير معني به أصلاً؟!
وفي أوساط المطلعين أو مدعي المعرفة بكلمة السر الأميركية همس مفاده إن ثمن جزين، لبنانياً، قد يكون الدخول مباشرة مع المحتل الإسرائيلي للبحث في صيغة علاقات المستقبل “بين الدولتين الجارتين”.
… وإن هذا الثمن قد يطال أيضاً مسألة الوجود السوري في لبنان،
أما موضوع “الشريط الحدودي” فقد بات – رسمياً وعملياً – مرتبطاً بالبحث الجاري حول المشروع الأميركي للتسوية، وبمعزل عن فرص نجاحه.
… خصوصاً وإن الإدارة الأميركية معنية بأن يوافق الأطراف المعنيون على مبادرتها، ولكنها غير معنية على الاطلاق بنجاحها وبأن تتحقق تلك المعادلة “السحرية” المرفوضة إسرائيلياً حتى كنص إنشائي: أي “الأرض مقابل السلام”.
فإسرائيل، كما يعلن مسؤولوها وبأفصح لسان، لديها الآن الأرض (العربية) والسلام، بل إنها هي وحدها القادرة على منح أعدائها (العرب) السلام، لأنها الأقوى والوحيدة القادرة على الحرب، في حين إنهم أعجز من أن يعطوها ما لا يملكون القدرة عليه، فلماذا تتنازل إذن، وتشتري وهماً لا تحتاجه ممن لم يستطع الحفاظ على أرضه ولا استعادتها بعد أن ضاعت منه حرباً؟!
لقد كان الموقف السوري واضحاً تماماً: إنه يحاول تحاشي الصدام مع الولايات المتحدة الأميركية، أقوى قوة على الأرض لاسيما بعد نصرها المجاني على العرب، عبر المغامرة العراقية البائسة في الكويت،
ولكنه وهو يجتهد لتحييد الإدارة الأميركية، ولو نسبياً، وتمييز موقفها عن الموقف الإسرائيلي من موضوع “التسوية”، قد حاول تثبيت بعض المبادئ الأساسية وتجميع أوسع قاعدة من التأييد الدولي لها، إن في ما خص المسألة الفلسطينية، أو في ما يتصل بالضغط على إسرائيل لإعادة ما غنمته من الأراضي العريبة بالحرب،
والمنطق السوري معلن: إنها محاولة جادة لحصر الأضرار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما ضيعته الهزيمة القومية الشاملة التي تسببت بها مغامرة صدام حسين الخرقاء.
أما مع لبنان فالأمر مختلف، فهو خارج المؤتمر أقوى منه داخله، ودائماً بقرار “الشرعية الدولية” إياها الرقم 425.
ولو إن لبنان يدخل المؤتمر وقد تسلح بتنفيذ هذا القرار المعطل إذن لكان أفاد أخوانه العرب في سوريا والأردن ومصر إضافة إلى القضية القومية – الأم: حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه.
أما لبنان المجرد من القرار الدولي فهو أضعف، وهو بهذه الحالة سيضيف عبئاً إلى أعباء أخوانه العرب المثقلين بهمومهم القديمة والجديدة.
ولعل القمة اللبنانية – السورية اليوم تحدد مساراً أكثر سلامة، حتى لا يكون لبنان قد سجل الخسارة العربية الأولى على عتبة هذا المؤتمر الذي لا تستطيع حتى واشنطن ضمان نجاحه ناهيك بعدالة النتائج التي قد تستولدها مبادرة بوش… قيصرياً.
هذا إذا انعقد!
وقديماً قيل: “قرار” في اليد ولا عشرة على المؤتمر!
ولكن اللبناني الشاطر يفضل المثل القائل: اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب!
أما الأعرف بطبيعة إسرائيل فيكتفي بالقول: اللهم إننا لا نسألك رد القضاء بل اللطف فيه… ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف!
وفي أي حال: فإن رسم دخولية المؤتمر تبدو باهظة جداً!