في لبنان وحده تتخذ المأساة أشكالاً كاريكاتورية تسيء إلى الأحياء فيه بأكثر مما تسيء إلى الشهداء،
مذبحة الأطفال في دير الزهراني، مثلاً، تتحوّل على سوق عكاظ تتصادم فيها التصريحات الشاجبة بالخطب الغاصبة بالتبريرات الشاحبة بالتعليات الطريقة والمبتكرة للسفير الأميركي في بيروت، في حين تحفل الصحف الأجنبية بالكتابات المشوّهة التي تكاد تصور الأطفال وكأنهم هو الذين اعترضوا مسار الصاروخ الإسرائيلي وقتلوه بتشويه سمعته وكفاءة مطلقه الممتاز التدريب!
ويشيع الضحايا وكأنهم ماتوا في كارثة فيضان أو في زلزال أو في انفجار سببه ماس كهربائي،
قد ينعيهم “بعض” الدولة، وقد تعوّض ذويهم الحكومة، ولكن المسؤولية الوطنية العامة تظل غائبة، أو “مهذبة” حتى لا يعتبرها الإسرائيلي استفزازاً جديداً، أو حتى لا يعتبرها “المجتمع الدولي” تحدياً وتخريباً على العملية السلمية المندفعة – كما الصاروخ إياه – نحو أهدافها المحددة؟!
وبعد كل اعتداء تنحرف تلك العملية السلمية قليلاً عن مسارها (؟!) فإذا نحن في “محطة” أخرى تنكرها وننكرها!
إسرائيل تضرب لبنان، يومياً، فتقتل أطفاله وتحرق قراه وتعطل قيام “دولته”، بذريعة تأديب “حزب الله”، ولوي ذراع سوريا بالضغط عليها عبره كي توقع معها سلاماً غير مشروط إلا بمقتضيات الهيمنة الإسرائيلية.
والولايات المتحدة لا تحاور لبنان إلا على مستوى الكوميديانتي مارك هامبلي في بيروت، في حين تمتنع واشنطن عن الاستماع إلى شكاويه، بحجة أن لبنان ليس طرفاً، وبالتالي فهو “غير معني” بالصدامات التي تجري فوق أرضه بين إسرائيل و”حزب الله”، وأنه مجرد مسرح لدورة العنف المطلوب وقفها، والتي لا يقدر على وقفها إلا جيش الدفاع الإسرائيلي.
إذاً فمن يسقط عبر دورة العنف هذه لا عزاء فيه. إنه محروم حتى في حق الشهادة لأنه “ضحية خطأ فني” أو “إنسان سيء الحظ ساقه القدر إلى حتفه بالمصادفة”.
لا قاتل. هناك فقط موتى بلا قبور على لبنان أن يسارع إلى دفنهم حتى لا يخرب السلام!
بالمقابل تضغط إسرائيل بكل ثقلها على الولايات المتحدة الأميركية لكي تخرج من دائرة التفاوض على قاعدة مدريد، ولكي ينتهي بخروجها هذا “الحوار بالواسطة” مع سوريا تمهيداً لأن تفرض على دمشق الحوار المباشر ومن ثم استدراجها إلى التوقيع الأخير والذي به تختم وثيقة إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي.
أما سوريا فتصر على تحميل الولايات المتحدة مسؤوليتها وعلى استبقائها في الدائرة، والتفاوض عبرها – كراع للعملية السلمية وشريك كامل ووسيط نزيه فيها – مع إسرائيل توكيداً على طبيعة الصراع ومن ثم على طبيعة الحل.
فليس بين سوريا وإسرائيل نزاع على الحدود أو على بعض الأراضي، وإنما هما طرفان في جملة أطراف أخرى تخوض منذ أمد بعيد صراعاً يتعدى الحدود والمساحات والأراضي ليتصل بهوية المنطقة وحقوق أهلها فيها وأدوار دولها وعلاقتها بالعالم، خصوصاً وأنها تعنيه جميعاً، ولأن الصراع من طبيعة إقليمية بل ودولية، منذ اللحظة الأولى، فالتسوية لا بد أن تكون إذن إقليمية بل ودولية، يشهد عليها “المجتمع الدولي” ممثلاً بقواه العظمى، باعتباره “متورطاً” فيها منذ البداية.
على هذا فلبنان مثل غيره من الدول العربية، ومثل إسرائيل، طرف في ذلك الصراع التاريخي، بغض النظر عن رغبات حكوماته أو أوهام المضللين من مواطنيه المسحوقين بالهزيمة وغرائز الانقسام الطائفي.
لكن إسرائيل تتصرف وكأن لبنان غير موجود إلا كشيء جغرافي. هي لا تعترف به “دولة”.
وهي تأخذ عليه أنه بلا حكومة مركزية قوية، متجاهلة أنها خاضت وتخوض “حروباً” لمنع قيام مثل هذه الحكومة،
وهي تتوجه بالخطاب مباشرة إلى دمشق، ليس فقط للحط من مكانة لبنان، بل كذلك لتزوير طبيعة الصراع (الأصلي). ومسخه إلى مجرد نزاع سخيف وغير مبرر ولا يستأهل كل تلك الدماء والحروب وأعمال التدمير والقتل من أجل قطعة أرض هنا أو هناك.
إنها، في لحظة، تصور العرب عشرات الملايين من الأقوام الهمج والمتخلفين من سفاكي الدماء يهجمون عليها لتدمير الواحة الحضارية الوحيدة في صحرائهم القاحلة.
وفي لحظة أخرى تجزيء الصراع وتسخفه فإذا هو محدود مع هذا الحاكم العربي أو ذاك ومع هذا الحزب الإسلامي أو ذاك، في حين يقف سائر العرب والمسلمين خارجه.
مرة هو الصراع الأبدي الذي يحتفل في البيت الأبيض الأميركي بوضع حد تاريخي له.
ومرة هو التعنت والتطرف والإرهاب البدوي ضد الديموقراطية وحقوق الإنسان دولة التقدم والازدهار،
متى شاءت إسرائيل تبدل المسرح والشخوص وموضوع المسرحية،
وتنسي العالم فينسى (!!) إن الصراع قائم ومفتوح من قبل قيام الكيانات السياسية العربية الحالية، وبالطبع من قبل قيام الكيان الإسرائيلي.
فالصراع معلن ومفتوح من قبل قيام “لبنان الكبير” الذي صار الجمهورية اللبنانية، وإمارة شرقي الأردن التي صارت المملكة الأردنية الهاشمية، ومن قبل استقرار الجمهورية العربية السورية على صيغتها وحدودها الحالية.
وهو بدأ بالأصل بين حركة صهيونية وافدة تغذيها وتدعمها قوى الاستعمار القديم، البريطاني – الفرنسي، وبين حالة نهوض حاولت أن تجسدها حركة قومية عربية، بينما أبناء هذه الأرض وأهلها تاريخياً يسعون إلى التحرر وممارسة حقهم في الحياة.
ولعل قوى التدخل أو الهيمنة الأجنبية قد وحدت بين “شعوب” هذه المنطقة بأكثر مما فعل ذلك حكامها،
فالغرب، وبالذات بريطانيا وفرنسا، تعامل مع “العرب” كأمة واحدة، لا بد من تمزيقها وتقسيم “قبائلها” في دويلات ليسهل التحكم بها، وكان الصراع بين المستعمرين على اقتسامها وحدوده أعنف من حركة مقاومتها ضدهما مجتمعين أو مختلفين ومصطرعين وهي الساحة والغنيمة.
وإسرائيل هي أكثر من “تعامل” مع “الوطن العربي” أو “العرب” كوحدة بشرية وسياسية وعسكرية واقتصادية، أو حاولت أن تصورها كذلك لتحظى بالعون الدولي غير المحدود، ولتكون “الغرب” كله في مواجهة “الشرق كله”.
وعلى امتداد الصراع، كانت إسرائيل تضرب كل عربي وكل دولة عربية وكأنها “العرب جميعاً”، أما إذا جاء الكلام عن السلام فإنها ترفض الاجتماع إليهم كطرف واحد أو كوفد مشترك، أو حتى كوفود عدة في مبنى واحد!
إنها تقاتلهم بالجملة لكنها لا تصالحهم إلا بالمفرق،
هم في الحرب “عرب”، إنما في “السلام” فدول وربما أمم عدة: مصر، لبنان، سوريا، الأردن، شيء من فلسطين، العراق وصولاً إلى اليمن شرقاً والمغرب غرباً…
وبالنسبة للبنان فهو في الغالب سوريا، وأحياناً مصر، وفي حالة محددة هو إيران، لكنه “مرفوض” بذاته، وغير مقبول توقيعه المنفرد،
ولضعاف الذاكرة يمكن استعادة فصول اتفاق الإذعان الشهير : 17 أيار 1983.
إسرائيل هي التي رفضت بالنتيجة ذلك الاتفاق البائس الذي تورط فيه الحكم اللبناني، وخاض من أجله حرباً ضد الذات،
أليست إسرائيل هي التي رفضت التوقيع اللبناني واشترطت الضمان السوري، وجعلته وكأنه “اتفاق إسرائيلي – سوري” عبر لبنان؟!
ومن حق لبنان وواجبه أن يحفظ نفسه، وبأن يحمي شرف المقاتل فيه طالما يتعذر عليه الحصول على السلام المشرف… ولأسباب إسرائيلية وليست عربية!