من حق لبنان، ومن واجبه، أن يغضب لكرامته الوطنية، ولكن ليس من حقه أن يتصرف كجاهل لا يعرف ماهية التحولات التي بدلت العالم وأسقطت المرجعيات الأممية (القديمة) لتحل محلها مرجعيات جديدة منفردة وفوق – أممية!
فمسلك مجلس الأمن الدولي حيال الشكوى اللبنانية الجديدة من الاعتداءات الإسرائيلية المتصلة واليومية، طبيعي ومنطقي، بينما ردة الفعل اللبنانية تستند إلى الذاكرة وليس إلى الواقع الدولي الراهن.
ذلك أن الصراع العربي – الإسرائيلي، بمختلف وجوهه وأطواره، وبكليته كما بجزئياته، لم يعد من اختصاص مجلس الأمن الدولي أو هيئة الأمم المتحدة،
كذلك فالمقر الرسمي لما يسمى “الشرعية الدولية” لم يعد في نيويورك حيث المبنى المهيب لتلك المنظمة الدولية التي ولدها خطر تجدد الحروب الكونية وأنهاها انتفاء ذلك الخطر بعد انفراد قوة عظمى وحيدة بالهيمنة على العالم (ولو مؤقتاً).
لقد باتت “الشرعية الدولية” اسماً حركياً للقرار الأميركي الذي غالباً ما يصدر بمشاركة إسرائيلية معينة، لاسيما متى اتصل بالأمر بالعرب أو بما كان يسمى الصراع العربي – الإسرائيلي، واتخذ له الآن اسم “العملية السلمية”.
وبات المركز الرئيسي في واشنطن، وله مكتب فرعي في تل أبيب.
على هذا فليس من حق لبنان أن يتصرف وكأن مجلس الأمن قد تقصد إهانته حين أغفل شكواه ورفض عقد جلسة رسمية لتأبين شهدائه من ضحايا مذبحة الأطفال في دير الزهراني، أو أية مذبحة أخرى فيأية منطقة أخرى يحرقها الاحتلال الإسرائيلي بناره يومياً.
فمجلس الأمن الدولي قد تحوّل، ومنذ نهاية الثمانينيات، إلى ما يشبه ندوة دولية لبعض كبار الدبلوماسيين المتقاعدين أو الذين اقتربوا من سن التقاعد.
وهي ندوة “وحيدة الصوت”، إذا قال الأميركي “نعم” ارتفعت الأيدي بالموافقة، وإن هو قال “لا” أصاب الشلل الأيدي المعروقة فلم ترتفع واحدة منها.
وكلما ذهب لبنان إلى مجلس الأمن بشكواه نظر إليه الأميركي شزراً، وأفلت السفير الأميركي في بيروت لسانه بزغرودة جديدة، فيها معنى الشماتة والسخرية من هؤلاء المكابرين الذين يرفضون الاعتراف بالحقائق الجديدة التي أفرزها النظام العالمي الجديد.
لكن الأميركي لم يقل مرة واحدة للبنانيين: تعالوا إليّ أيها المتعبون وأنا أريحكم!
إنه يدفع بهم لكي يذهبوا مباشرة إلى القاتل، مع وعد بأن يتشفع لهم عنده، بحيث يتحوّل الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبد في زنزانة الاحتلال أو في “قاووش” الهيمنة الفسيح وذي المعابر والأوتوسترادات العريضة.
وهو يتصرف وكأنهم هم الخطاة والمذنبون، حتى حين يتخذ الإسرائيلي من مدنهم وقراهم وأجسادهم وأرزاقهم حقل تجارب وساحات رماية لطائراتهم وصواريخهم (الأميركية)، أو للصواريخ الإسرائيلية الجديدة المنتجة بالمال الأميركي والخبرة الأميركية والدم اللبناني!
والأميركي يغض الطرف حتى لا يرى “الذئب – 50” الإسرائيلي، وهو يرتفع في السماء اللبنانية وينفجر ليرسل دويه إلى المحيط العربي من غزة إلى عمان مستهدفاً دمشق بالذات، وليثير الذعر في قلوب الفلاحين في الجنوب والبقاع الغربي.
لكنه بالمقابليرهف السمع لالتقاط صدى أية طلقة رصاص يحاول بها مواطن لبناني الدفاع عن نفسه وعن أرضه الحتلة، فيكون بعدها اللوم ثم عقوبة الإهمال المتعمد والاستمرار في محاصرة لبنان بمنع الأميركيين من القدوم إليه وامتناع وزير الخارجية الأميركية أو بعض مساعديه من المرور به لطمأنة حكامه القلقين إلى أنه ما زال على مفكرته.
المشكلة ليست في مجلس الأمن. هناك الصورة فقط والصدى.
وأفضل للبنان أن يحضر نفسه لحصار ستتزايد ضغوطه يوماً بعد يوم، من أن يستمر يطلب تفهماً مستحيلاً ومساعدة لن ينالها، لأن ما يشكو منه هو بالضبط بعض ما يسعى الأميركي لإيجاده… سعياً إلى الحصول على التوقيع الحاسم والأخير.
وليس صاروخ الذئب – 50 إلا وسيلة جديدة للضغط من أجل الحصول على ذلك التوقيع الذي يعادل في نظر الإسرائيلي تحقيق أغلى الأحلام، ويعادل في نظر العربي سقوط آخر المدافعين عن الثغور.
والمساحة بين الحلم العربي والحلم الإسرائيلي هي باتساع المستحيل… مهما تزايدت التواقيع العربية على “السلام الإسرائيلي” المظلل بالرعاية الأميركية.