طلال سلمان

على الطريق لبنان والنظام العربي بين الديموقراطية والحرب الأهلية

يوماً بين يوم، وعبر التطورات الدراماتيكية بالدماء المهدورة فيها، يثبت بالدليل الملموس إن المناخ الديموقراطي شرط للخروج من الحرب الأهلية في لبنان، ولقد يبدو هذا الكلام غريباً في ظل سيادة منطق الحرب الأهلية، لكن أي متأمل للأوضاع في لبنان لا بد أن ينتهي إلى مثله إذا هو استوعب دروس الأرض.
فالطائفة الظالمة، شأنها شأن النظام الظالم، تستولد معارضتها السلمية أول الأمر، فإذا ما ضربت الدعوة إلى الاصلاح وإذا ما عطل الرأي والفكر والجدل السياسي انفجرت الأزمة بوسائل عسكرية متخذة طابع الحرب الأهلية.
كذلك فإن تعطيل الحوار داخل الطائفة الواحدة، أو داخل المذهب الواحد، (إذا ما سلمنا بانقسام الناس وفق انتماءاتها الدينية وليس وفق مصالحها الطبقية واحتياجاتها الاقتصادية) من شأنه دفع أصحاب الاجتهادات المتعارضة في اتجاه الاحتكام إلى السلاح ويكون النصر لمن سلاحه أكثر فعالية.
أليست تلك بعض الدروس المستفادة من تجربة الصدام بين الجنرال و”القوات” في شباط الماضي؟!
ثم أليست تلك بعض دروس التجربة البائسة التي يعيشها الجنوب الآن، وعبر اقتتال “الأخوة” من مناصري حركة “أمل” والمنتسبين إلى “حزب الله”؟!
وقبل هذا وذاك هناك تجربة حرب الجبل وحرب الضاحية وحرب بيروت، وكلها قادتها “الدولة” وشنها “جيشها” النظامي على طوائف ومذاهب كانت تعترض على هيمنة طائفة بالذات على مقدرات البلاد عبر أسوأ نماذج الطغيان والديكتاتورية والسرقة الموصوفة ممن أوصلته إلى قمة الحكم شهرته كوريث للتعصب الطائفي والحرص على الامتيازات، وفي معرض دفاعه عن نفسه كان أمين الجميل لا يتعب من الترداد: – وماذا تراني فعلت؟! لقد حاولت التشبه بالكرام من زملائي وأقراني رؤساء الدول العربية وملوكها!!
ولو قدر لميشال عون بعض العقل السياسي لقال اليوم أيضاً إنه إنما يحذو حذو العديد من زملائه وأقرانه قادة الدول العربية.
كذلك هو الأمر مع قائد أي تنظيم مسلح باعتباره ميليشيا المذهب أو الطائفة أو الدين… أو الله جل جلاله شخصياَ!
لا أحد يسلم بالديموقراطية لغيره خارج الطائفة ولا أحد يسلم بالديموقراطية وحق الاختلاف معه لغيره من أبناء الطائفة، في الدولة كانوا يرون في المطالب بحقوقه هدافاً، وفي الطائفة يرون في المطالب بإنسانيته كافراً، وفي المذهب يرون في صاحب الرأي المختلف مرتداً أو خارجاً على القائد… وعلى الله سبحانه وتعالى.
ومن قبل كانت دولة الطائفة الواحدة ترى في الطوائف الأخرى حين تنهض للمطالبة بحصتها في كعكة الحكم عملاء للخارج… العربي!
وبهذا المعنى فإن بين مبررات انفجار الحرب الأهلية غياب الديموقراطية؟ أو ضعفها داخل الدولة وتعطيلها بالمطلق، بالنظام الطائفي، ومنعها الصارم داخل الطائفة الواحدة والمذهب الواحد.
الخيار محدد في الماضي والحاضر: أما الديموقراطية وإما الحرب الأهلية!
وهذا ينطبق على لبنان، كما على سائر الأقطار العربية التي تراودها الآن أحلام الديموقراطية، ولكن خوفها من النظام العربي السائد يشل الحركة الشعبية فيها خشية تحويل الصراع السياسي المشروع إلى حرب أهلية مدمرة.
أين يقع اتفاق الطائف من هذا المنطق؟!
لا نصير لاتفاق الطائف في لبنان إلا من يقول ومن يؤمن بالديموقراطية. وها هي الأرض فضاحة: فالذين يوالون اتفاق الطائف ويعملون لإنجازه وتنفيذه داخل الحكم وخارجه هم المؤمنون بالديموقراطية.
والذين يقاتلون اتفاق الطائف وينادون بإسقاطه أو يغمغمون وهم يتحدثون عنه لكي يهربوا من تحديد موقف واضح، هم الذين لا يقرون بالديموقراطية ولا يسلمون بحق المواطن فيها.
من هنا فإن بعضهم يتخذ من طائفة أو بعض طائفة رهينة، وبعضهم الآخر يتخذ من منطقة أو بعض منطقة رهينة، ويحارب من خلفها لإسقاط الاتفاق سواء في “الشرق” أو في “الغرب” أو في “الجنوب” المقاوم!!
بينما تجتاح الكون ظاهرة عودة الروح إلى الشارع بعودة الشعب إليه كطرف مقرر في شؤون حياته.
وبينما تتراجع أو تتهاوى أعتى الأنظمة البوليسية في الكون، وتتنصل منها الايديولوجيا الوالدة (الماركسية) عبر القول بضرورة إعادة البناء إنهاء للفرقة بين العقيدة وبين التطبيق،
وبينما يعجز النظام الرأسمالي عن استيعاب هذه الظاهرة الكونية الرائعة وتوظيفها لخدمته، فيتصرف بكثير من الحذر والخوف، ويكاد يهرب من “الآتين” إليه أو المتدفقين نحوه بوهم أن لديه ما يطلبونه أو يطمحون إليه من حرية وكفاية وعدالة وكرامة.
في هذا الوقت بالذات تتصرف بعض الأنظمة العربية بكثير من الحماقة التي تشي بجهلها المطبق لكيف تكون الديموقراطية.
… وتتصرف بعض أشكال المعارضة السياسية العربية بما يفضح جهلها، هي الأخرى، بأصول ممارسة الديموقراطية، إذا ما أعطيت لها كهبة أو منحة من قبل الحاكم – الاله الذي له حق المنح وحق المنع والذي هو على كل شيء قدير!
النظام المعني يعطي من المعارضين وعلى وجه التحديد العاجز عن الأخذ، والعاجز عن الممارسة الصحيحة، بحيث يضمن إن “خراج” معارضته سيعود إليه،
فهناك أنواع من المعارضة هي من طبيعة الأنظمة التي تناهضها، تظل تماثلها إلى حد التطابق حتى وهي تصرخ ضدها وتعمل لإسقاطها،
هناك “معارضون حكام”، وهم طريفون تماماً كأولئك الذين يمارسون “المعارضة” من موقع الحكم!
وأمثال هؤلاء المعارضين يعطون أنفسهم حقوق الحاكم كلها، ثم يضيفون إليها حقوق المواطن المضطهد، وبهذا يصيرون أسوأ أنواع الطاغية المهيمن ويشوهون نضالات الشعب ويدفعونه دفعاً إلى وهدة اليأس واللاجدوى.
بل إن هؤلاء “المعارضين” يبررون للطغاة من الحكام طغيانهم ويمدون في أعمارهم ويمكنون لهم في الأرض طالما قدموا أنفسهم كبديل.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن معارضة باسم الإسلام والأصولية وضرورة منع المسلمين من بيع الخمور وتعاطيها في الأردن قد جملت صورة مضر بدران، رجل المخابرات تاريخياً، فأظهرته كديموقراطي أصيل، وانتهت بأن كافأته بمنح حكومته الثقة بأكثرية ساحقة!
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن معارضة عاقراً وبلا رأس كالتي يمارسها بعض “الإسلاميين” في مصر والتي تتسبب في سيادة مناخ مسموم من التعصب والانغلاق والغربة عن العصر، لم يكن لها من نتائج عملية إلا إظهار وزير الداخلية، اللواء زكي بدر، وهو “شرطي” بكل تاريخه، وكأنه أقرب إلى الديموقراطية منها وأحرص منها عليها،
بل لقد بدا في لحظة من اللحظات زكي بدر في صورة الضحية المعتدى عليه، وكاد يكتسب ملامح “الشهيد” في حين ظهر هؤلاء “المعارضون” وكأنهم جلادون وطغاة وأعداء للشعب بأكثر مما هم خصوم للحاكم.
بالمقابل فإن نظاماً ضيّق الصدر والأفق كالنظام الكويتي تصرف مع جمهور شعبه الطامع إلى الديموقراطية والقانع بأبسط أشكالها وممارساتها، بفظاظة وقسوة غير مبررة قد تلجئه إلى أنماط أو أشكال أخرى في الممارسة، وقد تدفعه دفعاً إلى حيث لا يريد فكرياً وسياسياًز
لقد ارتضى المواطن الكويتي أن يتحول الشيخ من آل الصباح إلى “صاحب ملك”، محولاً أسرته – التي لا تميزها عن الأسر “النجدية” العريقة في الكويت أية مزايا – إلى أسرة ملكية حاكمة، ومحولاً مشيخته إلى “عرش” له بلاطه.
كذلك فقد سلم المواطن الكويتي على مضض، أن تحتكر هذه الأسرة السلطة فتعطي أبناءها، حصراً، معظم الوزارات والسفارات والإدارات الحساسة من مدينة وعسكرية.
بل هو اضطر أيضاً إلى التسليم بأن ينافسه “الشيخ” ومن موقع الحكم والسلطة على التجارة.
كان مستعداً للتسليم بذلك كله مقابل الاعتراف به بأبسط حقوقه الإنسانية: أي إبداء الرأي، والاعتراض على ما يراه خطأ بأبسط أشكال الممارسة الديموقراطية… أي بالكلمة، مكتوبة أو منطوقة، في الصحيفة أو في المجلس النيابي أو حتى في الديوانية، خصوصاً بعدما انقطعت وسائل الاتصال الأصلية (البدوية) بينه وبين الحاكم،
فتحت لافتة التقدم والتطور واللحاق بالعصر، ضربت مؤسسة القبيلة وقيم المجتمع البدوي ومفاهيمه وعلاقاته العشائرية، ولم تقم لا الدولة المطموح إليها ولا هي نجحت في إقامة مؤسسة للديموقراطية كالتي يسمع أو يقرأ عنها الناس في بلاد الفرنجة.
وهكذا صار المواطن بلا مرجع ولا مرجعية، بلا قيم ولا مفاهيم، بلا حقوق سياسية اطلاقاً.
حاكمه يحكمه بلا رقيب ولا حسيب،
والسياسة سر من أسرار البلاط، لا حق لأحد بالاطلاع عليه،
وهو لا يجد وسيلة لإسماع شكواه،
بل إنه لا يجد وسيلة لإعلان رأيه، ولو بالتأييد، إلا إذا كان غنياً بحيث ينشر التأييد أو المبايعة على شكل إعلان مدفوع في الصحف المزركشة الصفحات بكل أنواع الصور والكلام إلا ذلك الذي يعتبر عن وجدان المواطن وطموحاته الطبيعية.
حتى الديوانية “تآمر” يا الشيخ جابر؟!
حتى تلاقي بضعة عشرات من المواطنين! جهاراً نهاراً وفي مكان معروف للمخابرات والشرطة والمباحث والجيش، أمر يهدد السلامة العامة والنظام الديموقراطي العريق في الإمارة الذهبية؟!
هذا في عصر سقوط جدار برلين، وفي عصر تراجع الثورة الإسلامية في إيران في اتجاه الدولة التقليدية، وفي عصر الغزو الأميركي لباناما بحجة تخليصها من حاكمها مهرب المخدرات؟!
وبطبيعة الحال فمن الظلم أن يطالب الشيخ جابر الأحمد الصباح بأن يكون رائداً من رواد الديموقراطية،
ومن الظلم أيضاً أن تطالب المعارضة الكويتية بأن تكون طليعة الثورة العربية الجديدة، أو حتى طليعة العمل الديموقراطي العربي في عصر البيروسترويكا والتغيير الكوني الشامل،
لكنها مجرد ملاحظات من مواطن عربي، في لبنان قدر له أن يعرف ذات يوم بعض ملامح الديموقراطية وبعض نعمها، ثم هبت عليه رياح التعصب والانغلاق وضيق الأفق، من الداخل ومن الخارج فإذا هو ضحية الحرب الأهلية وأداتها في الوقت ذاته.
ربما لهذا يرفع الصوت محذراً من مخاطر الحرب الأهلية العربية، إذا ظلت الأنظمة على طغيانها وقصر نظرها واحتقارها لمواطنها.
والتحذير يشمل النظام القاصر والمعارضة القاصرة،
ربما لهذا تصبح ضرورة قومية أن ينتصر اللبنانيون على الحرب الأهلية، بأي ثمن،
وربما لهذا يصبح من مصلحة النظام العربي، الذي لم يشتهر بإيمانه بالديموقراطية، أن يتصدى للانفصالية وللتقسيمية في لبنان، وأن ينصر القائلين بالديموقراطية ووحدة لبنان،
فالديموقراطية هي العاصم من التقسيم بقدر ما هي العاصم والمانع للحرب الأهلية في لبنان وخارجه.

Exit mobile version