لا تذهب سوريا إلى مصر، هذه المرة، ذهابها إليها قبل ثلاثين سنة ونيف باسم الوحدة ولا من أجلها.
ولا تأتي مصر إلى سوريا، هذه المرة، مجيئها إليها قبل ست عشرة سنة باسم الحرب ضد العدو القومي الواحد، الغاصب والمحتل، ولا من أجل التحرير.
لكن لقاء القاهرة – دمشق يظل، برم كل شيء، تطوراً نوعياً بارزاً وإيجابياً في سياق التحولات التي تشهدها المنطقة العربية والتي تعكس – في بعض جوانبها – تأثراً مباشراً بالتحولات المذهلة التي تهز الكون وتغير تاريخه، أو اندفاعة غريزية في اتجاه حماية الذات والنوع!
والنتائج الفورية للقاء، على الصعيد السياسي، أخطر من طبيعة المباحثات التي جرت وتجري أو ستجري فيه وعلى مستوياته المختلفة… وهذه النتائج قابلة للتحقق وقادرة على الفعل حتى من قبل إعادة العلاقات والسفراء وسائر الأجهزة النظامية.
وعندما رأى الجمهور المصري عبد الحليم خدام في القاهرة وسمعه يتحدث عن رفقة السلاح بين الشعبين الشقيقين وما أنجزته عبر التاريخ من انتصارات قومية ساد شعور غامر بالارتياح مبعثه الاطمئنان إلى صحة التوجه.
وكان مثل هذا الشعور، قد ساد في مصر عندما رأى جمهورها صور اللقاء الأول بين الرئيس حسني مبارك والعقيد معمر القذافي، ذلك أن للجماهيرية العربية الليبية مكانة متميزة، هي الأخرى، في قلوب المصريين، والتلاقي مع ثورة الفاتح التي بلغت سن الرشد مؤشر إضافي على صحة التوجه.
ولقد سقطت بسرعة تلك النغمة النشاز التي حاولت استغلال اللقاء مع القذافي ثم مع الرئيس السوري حافظ الأسد للتدليل على أن سياسة أنور السادات هي التي انتصرت، وإن “الصقور” العرب قد عادوا إلى بيت الطاعة صاغرين.
وفي مقابل تسفيه منطق الساداتين وورثة كامب ديفيد فقد تعزز الشعور بالتعاطف مع الرئيس حسني مبارك وهو يخوض حربه المريرة داخل نظامه ومع القوى المهيمنة في الخارج من أجل الخروج من كف سياسة الانحراف الساداتية ولو بخطى حذرة وبطيئة ومحسوبة بدقة، بغير ادعاء بطولات وبغير أوهام في تغييير الواقع القاسي بعصا سحرية.
وتشير التصرفات والتصريحات الدقيقة للمسؤولين في القطرين إلى أن أحداً منهم لا يبحث عن نصر سهل، ولا هو يريد الاندفاع مع العاطفة أو مع الرغبة في مغامرة غير مأمونة النتائج.
لا حسني مبارك آت إلى سوريا لتغيير سياسة نظامها، ولا لإعلان التوبة عما وقع في عهد سلفه و”رئيسه” السابق أنور السادات،
ولا حافظ الأسد ذاهب إلى مصر لتغيير نظامها وفك ارتباطاته الثقيلة الموروثة التي يكافح للتحلل منها أو لتخفيف تبعاتها التي كانت تقتضي منه أن يحول عداءه من إسرائيل إلى العرب وأن يخرج منهم وعليهم نهائياً إلى متاهات الفرعونية والمتوسطية وما شابه من دعوات التغرب والتهجين التي لها في مصر – كما في كل قطر عربي – مؤسساتها ودعاتها ومنتفعوها وشركاتها القابضة و… الدافعة!
وفي ظل هذا الذي يجري في العالم فإن صوت العقل والحس العملي ومنطق المصالح لا بد أن يسودز
لا مجال للأحلام، الآن، ولا للأوهام خاصة.
على إن الوقائع والحسابات الباردة تعطي للقاء المصري – السوري بمجرد حدوثه، معززاً باللقاء المصري – الليبي الذي سبقه، نتائج فورية مؤثرة أبرزها:
*ضرب التوجه السائد نحو إقامة محاور متخاصمة، وتصدع مشاريع إقامة التكتلات الإقليمية (بل الجهوية) التي كانت وما زالت تسعى لإقامة جدران عازلة، وحتى خنادق دم، بين العرب في مختلف أقطارهم، أين منها جدار برلين الجاري هدمه بعد من الجانبين.
*تفكيك أو تعطيل استقطابات كانت تستند، في ظل افتقاد الحد الأدنى من وحدة العمل القومي أو وحدة الهدف القومي، إلى نعرات كيانية أو طائفية أو مذهبية أو نفطوية (أقلم يلبس بعض العرب النفط ثوب الهوية الوطنية والانتماء القومي للتملص من عبء عروبتهم)؟!
*إشاعة مناخ صحي يمكن أن يشكل رادعاَ أو كابحاً لريح السموم التي تجتاح المنطقة العربية منذ إجهاض النصر المحتمل في حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية،
فمع تبلور النهاية “القيصرية” المرسومة لتلك الحرب المجيدة فتح الباب على مصراعيه للحرب الأهلية وللاقتتال العربي – العربي، من المحيط إلى الخليج، مع تركيز خاص على الدائرة المحيطة بفلسطين بما فيها دول الطوق (أو المواجهة) ودول السائدة التي أضاعت الطريق والهدف الصحيح.
ولعل لبنان، مع شعب فلسطين، قد دفعا أبهظ الأثمان، فالأول خسر وحدته ودولته واصطنعت له قضية لم يكن لها ما يبررها، في حين غيبت قضية فلسطين – وهي الأقدس والأخطر في هذا العصر – بفعل الانحراف أو التواطؤ أو التقصير أو التفرد.
خسر لبنان الدولة ووحدة شعبه وأرضه من دون أن يصبح قضية قومية فعلاً،
وخسر شعب فلسطين قضيته القومية العادلة من دون أن يستعيد الأرض اللازمة لإقامة الدولة!
بهذا المعنى فإن لبنان قد يكون أسعد العرب باللقاء المصري – السوري، حتى وإن ظل محكوماً في المدى المنظور، بقيود قاسية تمنعه من الفعل المغير جوهرياً في الواقع العربي الصلد الذي يبدو – أحياناً – وكأنه يستعصي على أي تغيير.
فاللقاء المصري – السوري ضمانة لوحدة لبنان، وحدة شعبه ووحدة أرضه، بقدر ما هو ضمانة لانتمائه القومي،
وصحيح إن “الحرب” العربية على هذا اللقاء، وهي “حرب” يحتشد في ساحتها أكثر من نظام، قد تلقي بظلالها الدامية على لبنان الممزق فتسعر حدة الحرب الأهلية فيه. وتمد الانقساميين والتقسيميين بزخم مؤقت خوفاً من الآتي الأعظم،
لكن الصحيح أيضاً أن اللقاء، حتى في طوره التمهيدي بمنح لبنان – ككيان – المزيد من المناعة، ويعطي الوحدويين فيه أملاً مفتقداً في المستقبل،
ثم إن المناخ القومي، بالضرورة، الذي يشيعه هذا اللقاء يضرب التوجهات المعادية للعرب والعروبة (وهي هي الانقسامية سواء ظهرت بلبوس حماية المسيحية أو الذود عن حياض الإسلام)، ويعيد كل إلى حجمه الطبيعي، وإلى موقعه الطبيعي على الارض،
وإذا كانت إسرائيل قوة احتلال فإن “الحرس الثوري” قوة وافدة، وميشال عون ظاهرة مرضية عارضة تعيش بقدر ما يستمر هياج الغرائز الطائفية في ظل مناخ معاد للوطن والوطنية واستطراداً للعرب والعروبة.
وفي الخانة ذاتها يمكن إدراج سائر الظواهر المرضية لأية طائفة (أو غريزة) انتمت.
وسرعة سقوط هذه الظواهر مرتبطة عضوياً بإمكان تحول هذا اللقاء من ضرورة ظرفية تحتمه مصالح النظام إلى حالة شعبية قابلة للتمظهر في مؤسسة مؤهلة لأن تكون نقطة بداية لمرحلة جديدة تعيد وصل ما انقطع في تاريخ النضال القومي من أجل غد عربي أفضل للأمة بمجمل أقطارها وبكل أحلامها السنية.