للبنان ما بعد الطائف صورة معينة في ذهن حافظ الأسد وفي قراره.
وهي صورة لها أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى بعدها السياسي المباشر، خصوصاً وإنها تنطلق مما هو مشترك لدى السوريين واللبنانيين (وما أكثره)، ثم إنها تحمل بعض ما في نفسه بالنشأة، وبعض ما اكتسب من بعد بالعقيدة ثم بالتجربة العملية الغنية.
ويروي الرئيس الأسد أنه استقبل موفداً غربياً رفيع المستوى جاءه إبان احتدام الحرب الأهلية يطلب منه المساعدة على وقف الحرب وحماية النظام المتداعي في لبنان، ملمحاً إلى ضرورة مراعاة التوازنات الطائفية الدقيقة.
ولقد فوجئ هذ االموفد بحافظ الأسد يسأله: – هل تسمح لنفسك، أو لأي كان غيرك، بأن يحرك أبناءك حق الحلم؟!
ورد الموفد مأخوذاً بغرابة السؤال: – طبعاً لا،
قال الأسد: ولكن أطفال لبنان محرومون من الحق في الحلم؟ فمن يولد بمحض المصادفة لأب كاثوليكي مثلاً لا يحق له أن يحلم بأن يكون رئيساً للجمهورية، ومن يولد لأب درزي لا يحق له أن يكون قائداً للجيش، ومن يولد لأب أرثوذكسي لا يحق له أن يكون رئيساً للحكومة!!
ليس العمل السياسي إرثاً في نظر حافظ الأسد، ولا هو بالأخص احتكار لفئة أو لطبقة أو لطائفة ولا يجوز أن يكون،
كذلك فليس العمل السياسي “وظيفة” أو “وجاهة” أو “مهنة” منفصلة عن وظيفتها الاجتماعية، فالإقطاعي يمثل ويحمي مصالح الإقطاعيين بغض النظر عن ادعاءاته، والرأسمالي يهمه زيادة أرباحه ومضاعفتها ولو بإفقار الناس أكثر فأكثر بغض النظر عن صدقاته وحسناته التي يحاول بها التستير على جشعه، والفقراء لا يمثلهم ويعبر عن همومهم إلا الفقراء أبناء الفقراء.
وفي تحليل حافظ الاسد فإن النظام اللبناني بصيغته السابقة على الحرب الأهلية كان بين أسباب تلك الحرب ويتحمل أهله القسط الأكبر من المسؤولية عنها.
“حقاً كان في لبنان أقلية تتمتع بوضع ممتاز، إلى جانب أغلبية ساحقة من البؤساء والمحرومين، ولكم كان أهل النظام أغبياء حين لم يستمعوا إلى دعوات الإمام موسى الصدر لضرورة الإصلاح السياسي بالإنصاف الاجتماعي ورفع الغبن..
“كنت أقدر الإمام الصدر والتقيه كلما تيسر لي الوقت، وكنت أفترض أن المسؤولين في لبنان سيصغون إليه وسيلبون مطالبه إنقاذاً لأنفسهم ولنظامهم، خصوصاً وإنه لم يكن يؤمن بالسلاح ولم يكن يدعو إلى الثورة المسلحة، وإنما كان ينادي بالنضال السلمي من أجل التغيير بغير عنف، لذلك اختار التوعية بالمحاضرة والمناقشة والندوة ورفع الصوت في وجه الظالمين، محاولاً الإفادة من الهامش الديموقراطي وتعبئة الجمهور للمطالبة بحقه في أن يختار ممثليه المعبرين عن مطامحه..
“لكن النظام كان متحجراً، وكان مغلقاً في وجه رياح التغيير،
“ثم إن الطائفية كانت تعطل اللعبة أو العملية الديموقراطية، فمن نادى بتطوير النظام وجهت إليه اتهامات قاسية تمتد بين التأثر بالأفكار الهدامة وبين إثارة النعرات الطائفية.
“الأبشع أن أهل الموقع المماز في الحكم وصوروا الأمر وكان إقطاعهم أو احتكارهم للسلطة هو امتياز لطائفتهم وليس لأشخاصهم، في حين أن الأكثرية من المنتمين لهذه الطائفة يمكن أن ينطبق عليهم ما ينطبق على سائر اللبنانيين، فهم أيضاً فقراءن وهم أيضاً أبناء فلاحين وعمال وصغار كسبة.
“لكأنما تحصن الإقطاع السياسي الذي سرعان ما تحالف مع رأس المال بالطائفية، فبات المعترض عدواً للكيان واستطراداً عدواً للمسيحيين، في حين أن العدالة الاجتماعية مطلب للفقراء جميعاً لأي دين انتموا وليست دعوة فئوية”.
يقول الرئيس حافظ الاسد أن كثيراً من الموفدين الأجانب الذين جاءوه بشأن لبنان، على امتداد سنوات الحرب الأهلية، كانوا لا يدركون سر معرفته التفصيلية بأوضاع لبنان واللبنانيين، لأنهم يجهلون أو يتجاهلون عمق الارتباط بين أبناء “هذا الشعب الواحد في دولتين”.
وفي ضور تجربته فقد اكتشف أن معظم أهل النظام في لبنان لا يقلون جهلاً عن أولئك الموفدين الأجانب.
ويروي الرئيس الأسد أن مسؤولين كباراً في بيروت زاروه، قبل الحرب وفي بداية السبعينيات، ليطلبوا منه – بصيغة مهذبة – التوقف عن تحريض الفلاحين في عكار، مركزين الاتهام على الأفكار الهدامة وحملتها من الشيوعيين.
وحين استوضحهم عما يقوله المحرضون، أجاب “أفصحهم”: – إنهم يعدون الفلاحين، وهم فقراء، بالخبز والمدرسة والكتاب والثوب النظيف والعمل المجزي أجره الخ.
ولقد قاطعه الرئيس الأسد ضاحكاً: – إنك بهذا تروج للأفكار الشيوعية، فحذار.. فإذا كانت الشيوعية تعني هذا كله فكيف يبقى خارجها أي مواطن؟
ويستشهد حافظ الأسد بما كان يجري على طرفي “الحدود” اللبنانية – السورية، من جهة عكار (وهي عكار على “الضفتين): ففي عكار “السورية” كانت الدولة تساعد الفلاح بالتراكتور والبذار والأسمدة والمازوت ثم بشراء موسمه بسعر مقبول، في حين كان الفلاح العكاري اللبناني لا يجد غير الاضطهاد، من الإقطاعيين ثم من الدولة التي تقمعه إذا ما تنفس وتجبره على الانصياع لما يفرضونه عليه، أي أن يستسلم للظلم والجوع والقهر وكأنه قدره الذي لا مفر منه.
ولقد التفت حافظ الأسد، من ثم إلى زواره أصحاب الشكوى فقال: “- أنا آسف، فإذا كنتم تعتبرون هذا التصرف من جانبنا تحريضاً فلن نتوقف عن مثل هذا التحريض. ونصيحتي أن تعالجوا الأمر بإنصاف الناس وبإقناعهم أن الدولة دولتهم وليست قوة قهر لهم لحساب الذين قهروهم على امتداد الأجيال”.
يرفض حافظ الاسد رفضاً مطلقاً الادعاء القائل إن الديموقراطية يمكن أن تتعايش مع الطائفية والقهر الاجتماعي الفاضح.
وهو لا يفرق مطلقاً بين “طائفي مسيحي” و”طائفي مسلم”، او بين “إقطاعي مسيحي” و”إقطاعي مسلم”…
بل لعله أشد قسوة على “المسلمين” من هؤلاء أنهم يمارسون قهرهم للفقراء من موقع الملتحق بأصحاب الامتياز… فإذا كان أولئك يدافعون عن احتكارهم لمغانم الحكم والسلطان، فإن هؤلاء الملتحقين أشبه بالمرتزقة، لا يحظون باحترام “الممتازين” في حين تحاصرهم كراهية المظلومين والمضطهدين.
ويرجع حافظ الأسد إلى التاريخ، معلمه الأكبر، فيستذكر كيف كان المستعمرون، الأتراك ثم الفرنسيون من بعدهم، يوزعون المغانم والمناصب والأراضي والألقاب على المتعاونين معهم ضد أهلهم: “- فهل من المقبول أن يكون أولئك الذين حكموا باسم الاستعمار ولحسابه، حكاماً في العهد الوطني، ثم أن يورثوا الحكم لأبنائهم وكأنه وقف ذري أو نعمة لا يستحقها إلا الذي خرج على إرادة أمته وساهم في قهر أبنائها”؟!
يستذكر حافظ الأسد، أيضاً، بعض الذين انقلبوا من مناضلين وحدويين إلى موظفين في خدمة الأجنبي عندما استشعروا أن الانفصال سيجعلهم حكاماً في الدول الكرتونية التي اصطنعها…
يستعيد حافظ الأسد، بغير حقد، وقائع لها دلالة عميقة ولكنها قد تحولت بقوة التطور والتغيير إلى طرائف، ومنها:
*إن “قطباً” من رموز النظام القديم ومن أركانه، قد جاءه عشية الانتخابات النيابية في لبنان العام 1972، يطلب التأييد والعون “لاسيما وإن بعض فلاحيه قد تجرأوا فقرروا أن يرشحوا أنفسهم ضده”!!
يشع وجه حافظ الأسد بابتسامة عريضة وهو يضيف قائلاً:” – لقد نسي هذا البيك، وقد كان من أصدقائنا، إننا نحن أيضاً أبناء فلاحين، وإننا عانينا أمر مما عنى أخوتنا الفلاحون في لبنان لأن إقطاعيينا كانوا أعظم جبروتا وأعرق تقاليد في القهر والعشف وإذلال الفلاحين الفقراء وقد كانوا في مرتبة الأقنان..”.
*إن “قطباً” آخر ادعي أمامه أنه حاول أن يساعد بعض أبناء الفلاحين عل تحصيل العلم، ولكنه سرعان ما اكتشف أن هؤلاء المتخلفين معادون للتقدم وإنهم سيبقون متخلفين، ولذا فمن الأفضل لهم وللبلاد (والحكم طبعاً) أن يبقوا في تخلفهم لا يغادرونه ولا يتطلعون إلى فوق فيتعبون!
لا بد من تغيير الدم في الحياة السياسية اللبنانية، يقول حافظ الاسد.
لقد هرمت الطبقة الحاكمة وتكشف عجزها وإفلاسها حتى من قبل أن تنفجر الحرب الأهلية.. كذلك فإن تلك الطبقة ظلت على إيمانها بالقدرات غير المحدودة للغرب ولم تستشعر في أي يوم ثقة بنفسها أو بقدرتها، ربما لأنها لم تكن تتقوى بثقة شعبها وتأييده. ظل الغرب هو السيد في نظرها، رغبته أوامر ومطالبه لا ترد، وعلى حساب الكرامة الوطنية أو المصلحة القومية.
ويقول حافظ الأسد: “- كريهة هي الحرب الأهلية ولا شك، ليس أبشع منها ولا أقسى… ولم تكن الحرب الأهلية في أي يوم مطلباً للفقراء وهم لم يلجأوا إليها لتحسين مواقعهم أو لنيل حقهم في الحكم. على العكس تماماً، فإن الذين أرادوا احتكار السلطة والنفوذ والمال هم الذين تسببوا في تفجيرها، بقصر نظرهم أو بارتباطاتهم أو بعجزهم عن استيعاب منطق التطور. ليس مطلب الفقراء في أي مكان وزمان تدمير المدن وإحراق البيوت والقتل الجماعي، خصوصاً وإنهم هم الضحايا دائماً.
“على أن الحرب الكريهة التي عصفت بلبنان واللبنانيين قد كشفت عبر مآسيها، الحاجة إلى التغيير وضرورة تجديد الدم في الحياة السياسية اللبنانية، بل على المستويات كافة.
“وكان لا بد من أن تتهاوى الجدران السميكة للنادي السياسي، وأن ينفتح الباب أمام شرائح وفئات اجتماعية جديدة قد يحمل أفرادها الغريب من الأسماء وقد لا يكون بعضهم في مستوى الطموح إلى التغيير، وقد يكون بينهم من هو فعلياً أسوأ ممن كان قبله..
“ولعل بعض نتائج هذا التطور قد تبلورت عبر الانتخابات النيابية الأخيرة، وبالتأكيد فإن بين من انتخبوا وباتوا الآن نواباً من لم يكونوا يحلمون بأن يتم لهم ما تم، وبأن يحتلوا مقاعد “البكوات” والأسياد السابقين في البرلمان والحكومة والرئاسات..”.
حافظ الاسد لا يتعجل الأمور، فما تم في لبنان حتى الآن مقبول:
“- ربما لم يكن هؤلاء الأفضل، لكن السابقين كانوا أسوأ بالتأكيد، ثم إن الحساب بات ممكناً والباب مفتوح باستمرار للتغيير.
“المهم أن يحافظ هؤلاء الذين جاءوا باسم التغيير على خطهم وراياتهم وألا يسقطوها أو يبيعوها بمنصب أو بمغنم آني فيصاب جمهورهم بالخيبة..
“المهم أن يكون هذا التغيير خطوة واسعة في اتجاه الخروج من كهوف الطائفية والمذهبية إلى نور العمل الوطني والقومي.
“ومرة أخرى، فلا ديموقراطية مع الطائفية، ومع احتكار السلطة (وتحصينها بالمال) باسم الطائفية وحقوق الطوائف.. ولا ديموقراطية طبعاً مع الامتيازات، والامتياز ليس لطائفة بل هو لمجموعة من محتكري السلطة باسم السلطة الطائفية، والذين ورثوها، الذين نالوها من الأجنبي كامتياز لأنهم خدموه على حساب شعبهم وليس من أجل الحرية والسيادة والاستقلال”.
ولبنان حاضر دائماً في مجلس الأسد، لا يغيب عنه حتى لو لم يكن “الضيف” من أهل الحكم فيه، كما بالأمس، أو لم يكن لبنان هو الموضوع الأصلي للحديث..
وسنعود إلى حديث لبنان كلما تطرقنا إلى أولئك الذين أموا مجلس حافظ الأسد، وما أكثرهم، وتناوبوا على الجلوس في هذا المقعد إلى يساره متوجهين إليه بطلب العون أو بالتشكي، مناشدين أو معتذرين عن خطأ متعمد أو عن قصور في الفهم أو عن مبالغة في الاجتهاد، او – لاسيما – عن تجاوز للمدى في توهم الحصول على دعم “الغريب”.
ولكم أن تجتهدوا في توصيف “قمة الترشيد”، أمس الأول، وفي إحلالها محلها الصحيح في إحدى هذه الخانات!.
فحافظ الأسد هو حافظ الأسد، لكن كثيرين يبدلون “خطابهم” أمامه عن كل ما قالوه ويقولونه خارج هذا المجلس على أمل أن يحظوا بنعمة الرضا، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث!