تتهاطل على اللبنانيين، هذه الأيام، وبغزارة ملفتة عواطف بعض الذين لم يسلموا يوماً بسيادته واستقلاله وممارسته لموجبات هويته العربية.
فالقيادات الفرنسية العديدة والمختلفة في ما بينها على سياسات الداخل والخارج تتفق فقط في تحريض اللبنانيينبعضهم ضد البعض الآخر، ومجموعهم ضد عروبتهم وعلاقتهم الطبيعية مع سوريا.
على جبهة أخرى، يتبارى قادة إسرائيل في التأكيد والتشديد على أنهم لا يطمعون بشبر واحد من أرض لبنان أو بنقطة واحدة من مياهه، وعلى أن استمرار احتلالهم لبعض جنوبه وبقاعه وبعض إرادته وقراره السياسي، إنما هو بدافع الحرص على سيادة لبنان واستقلاله فلا يعبث بهما العابثون!
ومع الوعي بالاختلاف الجوهري في الموقف بين فرنسا – الدولة الصديقة – وإسرائيل “العدو” فمن الضروري تسجيل الاعتراض على ما تستذكره بعض القيادات المرشحة نفسها لصناعة الغد في باريس من ترسبات الأمس الاستعماري في لبنان، وتحاول إحياء عظامها وهي رميم، ملتقية – بالرغبة أو بالمصلحة – مع الغرض الإسرائيلي المعلن في ابتزاز لبنان مباشرة عبر المحاولة المتواصلة لاختراق نسيجه الاجتماعي والتعامل مع طوائفه على حساب دولته، ولحد ليس إلا أحد العناوين.
وفي تل أبيب يعلن إسحق رابين أنه لا يعترف بالقرار 425 القاضي بانسحاب إسرائيلي فوري وغير مشروط من الأرض اللبنانية التي احتلها جيش الدفاع الإسرائيلي في آذار 1978، ويكاد يرفض الاعتراف بلبنان كمفاوض، وإن كان يقبله ويطلبه للتوقيع في أي وقت على “معاهدة سلام” أخرى، تعزز فيه “دولة الاستقلال” و”سيادة الدولة” على أراضيها والمياه!
بعض القادة الفرنسيين ولأسباب تتصل بصراعاتهم السياسية الداخلية، يعاقبون لبنان لأنهم لم يستطيعوا انتزاع الاعتراف بهم كطرف فيه من حلفائهم الأميركيين، الذين حجبوا الغرب جميعاً (ومعظم العرب)،
والإسرائيليون يعاقبون لبنان لأن حكمه لم ينزلق إلى وهدة التواطؤ معهم على شعبه أولاً، ومن ثم على إخوانه في سوريا.
لقد تلاقى بعض ساسة فرنسا من حيث أرادوا أم لم يريدوا مع إسرائيل على رفع الشعار المسموم “لبنان أولاً”… وهذه دعوة خبيثة للانتحار المجاني تتجاوز “إنجاز” عرفات في “غزة أولاً” الذي كاد يذهب بفلسطين، قضية وشعباً وأرضاً ومنظمة تحرير!
وبديهي أن مثل هذا الشعار لا يصلح حتى للمناورة ، فهو سلاح فاسد يرتد على حامله،
لقد أوصلت “القناة السرية” عرفات عبر “غزة أولاً” إلى صدام مباشر مع شعبه، وحوّلته من “ثائر” و”قائد” إلى شرطي لحراسة الاحتلال الإسرائيلي ومخبر ومرشد إلى المناضلين من رفاق سلاحه القدامى الذين يتابعون الجهاد من أجل التحرير،
وحوّلت سياسة “الأردن أولاً” الملك الهاشمي من حاكم إلى مجرد محافظ أو وال أو عامل من عمال “الحكومة المركزية” في تل أبيب على “مناطق” أخرى في الضفة الشرقية، وأنزلته من مرتبة “الملك” إلى مرتبة “الوسيط” أو “المسوّق” أو “المروّج” للبضاعة الإسرائيلية وليس للسياسة الإسرائيلية.
فليس أبأس من تجربة استدراج الاهتمام الأميركي عن طريق التلويح بفتح قناة سرية أو باب خلفي مع إسرائيل، ونتائجها مطبوعة بالدم في الذاكرة اللبنانية.
ولبنان الجريح ما زال يترنح بتأثير واحدة من أقسى التجارب وأمرها: اتفاق 17 أيار… الاتفاق الذي أدخل لبنان في حرب ضد ذاته وأهله، ثم لم يوصله إلى “السلام” المرتجى مع “العدو” الذي كان وما زال وسيبقى ينظر إلى العرب في مختلف أقطارهم على أنهم “أعداؤه” حتى وهم يترامون على أعتابه صاغرين!
ولبنان ليس اليوم ولن يكون غداً خارج دائرةهذا العداء، مهما بلغت فصاحة المترافعين بالفرنسية خاصة، أو بلغات أخرى بينها الإنكليزية والعبرية والعربية، عن جنة السلام الإسرائيلي ورقة المشاعر الإسرائيلية تجاه لبنان واللبنانيين!
.. مع التمني بأن تعود فرنسا – الدولة إلى موقعها المحفوظ كصديقة للبنان وللبنانيين، بتأكيد هذه الصداقة في وجه الإسرائيلي أولاً وأخيراً..