عيب الذين يعملون ويسعون ويطالبون ويلحون على ضرورة “المصالحة الوطنية” قبل البحث بتشكيل الحكومة، وهم يريدونها للمناسبة “حكومة اتحاد وطني”، إنهم يقفزون من فوق أسباب “الخصام” الذي يستدعي مثل هذه المصالحة العتيدة… أي إنهم يقفزون من فوق المضامين الوطنية للأزمة ويتعاملون فقط مع جوانبها الشكلية والشخصية والعشائرية.
وهذا ما يفسر أسباب التعثر والإحباط والتلكؤ والخيبة التي مني بها القائمون بالمساعي من محترفي المصالحات الموسمية في لبنان،
.. ويفسر أسباب غياب أي موعد حقيقي و”عملي” لتشكيل الحكومة عن الأفلق… المنظور.
وحتى إذا تجاوزنا هذا الإسراف في استخدام كلمة “وطنية”، بحيث باتت ملصقاً يضاف إلى أي معنى مشبوه ليخفي مكمن الشبهة فيه، يبقى السؤال نفسه: كيف يمكن الوصول إلى حل وطني للأزمة الوطنية طالما غاب الوطن – بمعناه الحقيقي والوحيد – عن ذهن أهل الخير من الوسطاء والكرام؟
الوطن واحد، في الأصل، والمواطنون وحدة،
لكن التسويات لا تتم إلا وفق قاعدة تجعل الوطن إقطاعيات والمواطنين طوائف ورعايا والحل أشبه ما يكون بفض نزاع على “الحدود المشتركة” بين الاقطاعيات الدينية والاقطاعيات السياسية: يتراجع هذا شبرا هنا فيعوض شبرا هناك أو شبرين… إذا كانت الأرض بعلية!
يطرح الناس مطالبهم المحقة والعادلة والمجمد تنفيذها منذ قرون، وينظر فيها “أهل النظر” ويدققون، ثم فجأة يصرخون باستهجان: هذه مطالب إسلامية!
وبعد الصراخ، والعراك (والرصاص والموت والدمار)، و”نجاح” المساعي الحميدة في تهدئة ثائرة الثائرين، يقول قائلهم: حسناً… ونحن أيضاً لنا مطالب.
مطالب مسيحية مقابل المطالب الإسلامية.
وتشحب صورة الوطن وتغيب مخلية المجال لتجار الطائفية والمنتفعين بها،
وتقام تخوم جديدة بين الطوائف، وتخفق فوق السارية – بدلاً من العلم – قطعة قماش حمراء بلون دم الضحايا محفور في وسطها شعارنا “الوطني” الكريه: لا غالب ولا مغلوب،
وفي وسط هرج الاحتفال ومرجه لا ينتبه إلا القلة إلى إن السارية مغروزة في قلب الوطن… في القلب لا في الأطراف.
… ويستمر نزيف الوطن، بانتظار انفجار جديد للأزمة الوطنية تطمس أسبابه، مرة أخرى، وتفبرك له حلول عشائرية بتعديل الحدود المشتركة بين الاقطاعيات السياسية والاقطاعيات الطائفية.
بعد مئات من القتلى والجرحى،
وبعد خراب ودمار وتعطل وبوار وكساد تقدر أضراره بمئات الملايين من الليرات، يخرج “منظرو النظام” على الناس بمنطق متعفن وسقيم يقول ما مفاده : فليتصل فلان بفلان، وليزر فليتان علانا، فتحل كل المشاكل ويقبل الناس بعضهم بعضاً، وتسود المحبة وتنشد الملائكة في السماء: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة!
ويكبر السؤال: حتام يظل ممنوعاً على لبنان أن يكون صاحب قضية… وعلى المواطن في لبنان أن يكون للقضية في غير موقع الضحية المحروم من حق الشهادة ولقبها المشرف؟!
قبل “المصالحة الوطنية”،
وقبل “حكومة الاتحاد الوطني”،
ونريد أن تتركوا لنا – أيها السادة – ما تبقى من لبنان الوطن، على الأقل من أجل أن نمد مساعيكم بأوصاف الوطنية التي تحتاجونها.
عشتم … ورحم الله لبنان!