لا يجوز أن يعيد التاريخ نفسه مقلوباً، وأن يتكرر الخطأ الذي رافق عقد “اتفاق القاهرة” بين السلطة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية قبل اثنين وعشرين عاماً إلا قليلا.
فذلك الاتفاق الذي رأى فيه البعض إنجازاً تاريخياً ونصراً باهراً للحركة القومية والعمل الوطني والمد الثوري، رأى فيه بعض آخر “اتفاق اذعان” فرض فرضاً على السلطة اللبنانية، وتم تهريبه وكأنه سلعة ممنوعة في مجلس النواب، فلم يتيسر لأعضائه ولا حتى لأعضاء الحكومة التي أقرته، أن يطلعوا على نصه… الخطير!
كان “الفلسطيني” يومذاك، قوياً جداً، يتودد إليه حكام العرب وينافقونه ويتقربون إليه سعياً وراء “الشعبية” والتحصن في مواجهة جماهيرهم،
وكانت السلطة في لبنان أضعف مما يجب، خصوصاً وإن الانقسام فيها كان قد بلغ ذروته (صراع الشهابية و”الحلف الثلاثي” برعاية الرئيس شارل حلو وإشرافه الشخصي)… ثم إن قائد الجيش آنذاك، العماد اميل بستاني، كان يتطلع إلى قمة السلطة، كما اتهمه خصومه من السياسيين،
الصورة الآن معكوسة تقريباً،
فالسلطة في لبنان تبدو قوية جداً (وحتى إشعار آخر)، إذ أنها محصنة بالقرار العربي – الدولي، وبالرعاية السورية المباشرة، وبالالتفاف الشعبي حول فكرة الدولة والتشوق إلى الشرعية وسلطتها بعد الدهر الطويل من تحكم العشائر والطوائف المسلحة،
و”الفلسطيني” ضعيف جداً، كما يظهره واقعه في الداخل والخارج، في السياسة كما في مجال الكفاح المسلح.
ومن الخطأ والخطر أن تغري القوة – المستعادرة – السلطة في لبنان، أو أو يعويها ضعف الفلسطيني، فتنساق بضغط قوى خارجية لا تريد الخير لأي عربي بالمطلق، إلى صدام مجاني مع الجريح الفلسطيني، بأية ذريعة كانت.
ليس من حق الفلسطيني أن يرفض بسط الدولة سلطتها على أي شبر من لبنان، بما في ذلك مخيماته ذاتها، فهو أيضاً – كإنسان وكمقيم مستقر على هذه الأرض – متشوق إلى وجود الشرعية وبحاجة إلى رعايتها، وإلى حمايتها السياسية… خصوصاً وإنها ليست، أو إنها لا يُفترض أن تكون بأي حال، سلطة معادية.
وليس من حق السلطة أن تخاطب الفلسطيني – كفرد أو كمجموعة – متجاوزة قيادته السياسية، ومسقطة “خصوصيته” النابعة من طبيعة قضيته وليس من مكان إقامته.
الفلسطيني ليس دولة داخل الدولة في لبنان،
لكن الفلسطيني ليس “مواطناً” عادياً في الدولة اللبنانية، بل هو مواطن ولو في الحلم في دولة أخرى هي فلسطين،
وإذا كان من الواجب عليه أن يراعي واقع وجوده في دولة أخرى لها نظمها وقوانينها وشروط سلامتها، فإن على هذه الدولة أن تحمي حقه في حلمه فلا تذوبه فيها ولا تلغي هويته المميزة… خصوصاً وإن “شعبها” شريك في الحلم الفلسطيني، وإنها صاحبة مصلحة – كدولة – في تحقيق ذلك الحلم، ولو بعد حين.
على هذا فلا يجوز الهرب من الفلسطيني أو شطبه من الاتفاق السياسي، كرد على تهريب اتفاق القاهرة ذات يوم.
فلا القرار الدولي – 425 – سينفذ بالتهريب،
ولا السلاح الفلسطيني هو المعطل الفعلي للتنفيذ، برغم أنه ذريعة إسرائيلية، وبالتالي أميركية، ومن ثم لبنانية.
وللتذكير : فالسلاح الفلسطيني دخل لبنان العام 1969، لكن الوجود الفلسطيني سابق بعشرين سنة على السلاح،
ولقد كان الفلسطيني قبل السلاح لاجئاً، وقد حولته قضيته إلى ثائر، وحوله سوء استخدام السلاح إلى متحكم، فإلى طرف في الحرب الأهلية.
وهو لن يعود لاجئاً بالتأكيد، ولا يجوز أن يبقى متحكماً بالقطع، وليس مطروحاً أو مقبولاً منه ومن اللبنانيين أن يصير مواطناً لبنانياً، خرج أو أخرج من الحرب الأهلية اللبنانية والفلسطينية،
وهويته ضمانة له وضمانة للبنانيين في وجه التوطين، وحلمه المقدس ضمانة إضافية.
ومنطق الدولة يكون قوياً بقدر مام تظهر إنها معنية بفلسطين والفلسطينيين وليس بحراسة حدود الاحتلال الإسرائيلي،
فالمنطق القومي هو الأقوى مع الفلسطيني،
وبهذا المنطق دخل الفلسطيني في صلب السياسة اللبنانية وليس بقوة سلاحه.