تتزاحم، هذه الأيام، المناسبات الاحتفالية الصاخبة حتى ليكاد يغمى على المواطنين من شدة الفرح والابتهاج!
فهي الذكرى الأولى لاستيلاد هذا المجلس النيابي “المنتخب” من قلب مخلفات الحرب الأهلية… وتلك، كما يبدو واضحاً، أقصر طريق إلى الديمقراطية!
ثم إنها الذكرى الأولى لابتداع هذه الحكومة الاستثنائية على قاعدة “التحالف المبدئي” بين السلاح والمال والزعامات التقليدية لإعادة إعمار ما دمره الجميع بالحرب وإنجاز خطة النهوض الاقتصادي… وتلك أقصر الطرق إلى العدالة الاجتماعية والرد على تحدي السلام الإسرائيلي!
كذلك فهي الذكرى الثالثة لإسقاط التمرد العسكري، ولقد اكتملت الدلالات العميقة لانتصار الشرعية بوصول جمهورية الطائف إلى قصر بعبدا وتطهير الساحة والردهات والملاجئ من آثار “الجنرال”… وذلك أسطع برهان على هزيمة العسكريتاريا بالنظام البرلماني الديمقراطي!
… وهي الذكرى الرابعة للانتقال من حكم الطائفة إلى حكم الطوائف عبر إنجاز اتفاق الطائف ودستوره الجديد الذي لم يترك شيئاً للذاكرة أو للمصادفة فنص على طائفية الرئاسات وعلى نهائية الوطن وعلى تحريم التوطين وعلى عروبة الهوية، وكاد يستذكر فيذكر بمبطلات الوضوء وآداب الحديث لولا الخوف من الإطالة وإملال السامعين،
يتصل بذلك إننا عشية الذكرى الرابعة لقيام العهد الذي باشره الشهيد رينيه معوض ثم تصدى لإكماله، برغم المخاطر، الياس الهراوي بروح الذاهب إلى عملية استشهادية،
الأهم إننا عشية الذكرى الخمسين للاستقلال، ومن محاسن الصدف أن اليوبيل الذهبي يجيء وفي البلاد حكومة ذهبية، ولا يعود مهماً أن تكون ثمة دولة ولها استقلال، أو ثمة استقلال وله دولته، ففي البلاد فيض من رجال الدولة ومن أصحاب الدولة وفيهم العوض والبركة.
وها هم يتناوبون على منصات الخطابة يتباهون بإنجازاتهم التي حوّلت المناسبات إلى أعياد قومية أين منها كرنفال الريو في البرازيل… بل لقد أسعدنا الحظ، في بعض الأيام، فشنف آذاننا بأكثر من خطاب لأكثر من واحد من أصحاب الدولة فطربنا غاية الطرب، ولا من يغني، وسكرنا غاية السكر وليس من شراب!
والحقيقة أن حكامنا جميعاً صادقون في كل ما قالوه، ولعلهم هو الذي لم يقولوه أصدق:
*فالدولة في أعلى درجات الاستنفار لمواجهة تحدي السلام الإسرائيلي، حتى ليظنن العدو الخبيث أن لا دولة في لبنان!
وقديماً كان الافتراض أن دولة لبنان قيد التأسيس، أما الثابت الآن وبأفضال أصحاب الدولة أن المجتمع اللبناني نفسه قيد التأسيس… ذلك أن الدولة شرط حياة وشرط وجود للمجتمع في هذا الكيان الفريد، فإذا ما غابت أو ضعفت وتخلخلت ركائزها انفرط العقد الاجتماعي وتوزع “البشر” طوائف ومذاهب وعشائر وقبائل وروابط عائلية حتى لكان الجميع يعيشون مرحلة انتقال في انتظار أن تلمهم دولة ما غير التي كانوا أو التي افترضوا دائماً أنهم فيها ورعاياها…
وحدهم أصحاب الدولة يعرفون كيف سيواجهون وكيف سينتصرون على هذا العدو المتبجج بقوته…
ولعلم سيذهبون في التصدي مذهب شركائهم من متمولي الشتات الفلسطيني فيقيمون مع اليهود شركات ومشاريع مشتركة تشمل المصارف والمقاولات وإعادة الإعمار، وهكذا نخترقه بدل أن يخترقنا ونقاتله فنهزمه في عقر داره، والمال يفعل المعجزات!!
*ولعل هؤلاء العباقرة قد توصلوا إلى استنتاج فذ مفاده أن لبنان لن يغلب أقوى دولة في الشرق إلا إذا ألغى دولته الضعيفة والمتهالكة… وهكذا بدأوا في هدم ما كان موجوداً منها منهجياً: عطلوا مؤسسات الرقابة، وأقاموا في قلب الإدارة إدارة “خاصة” موازية، واشتروا كل من هو برسم البيع من كبار الموظفين ليعمل لصاحب الدولة الذي يدفع الراتب مضروباً بعشرة أمثاله وبالدولار، واشتروا وباعوا مع الميليشيات، أعطوها المناصب باسم الطوائف وأخذوا منها التغطية الشارعية، ثم عززوا القدرات المالية لقيادتها مقابل أن تمكنهم من السيطرة على القرار المالي وعلى المجالات التي تدر أرباحاً فلكية على حساب أصحاب الحقوق، كما في الوسط التجاري، وبهذا تعزز الحلف المقدس بين أصحاب الدولة فلم يعد بوسع إسرائيل أن تخترقه أو تهزه أو تتسلل منه إلى النسيج الاجتماعي لا من قريب ولا من بعيد!
*ومقابل إسرائيل المعطوبة بشيء من النظام الاشتراكي وبكثير من هيمنة القطاع العام على الدورة الاقتصادية، اعىتمد أصحاب الدولة في لبنان فك القطاع العام وبيعه بالجملة والمفرق… وهم بصدد الإعداد – وضمن الأصول الديمقراطية دائماً!! – لبيع المرافق المنتجة مثل الكهرباء والهاتف والمياه والمطار والموانئ، إذ من المعيب أن تكون الدولة تاجبراً (وليس معيباً أن يكون التاجر دولة)، فتقوم من ثم “الشركات القابضة” العصرية في مناهجها وتجهيزاتها وعناصرها البشرية، بمطاردة شبح التطبيع مع إسرائيل (المشلولة بتخلف القطاع العام) ويكون النصر المؤزر من حيث لا تقدرون!!
*ضمن هذه السياسة الحكيمة أعاد أصحاب الدولة ترتيب الأولويات لضمان إلحاق الهزيمة بالعدو الإسرائيلي في المبارة السلمية،
من هنا وجه أصحاب الدولة الدعم إلى المدارس الخاصة والجامعات الخاصة، فالحكومة لا تصلح أن تكون معلم مدرسة، والتعليم سلعة والتدخل في سعرها تطاول على نظام الاقتصاد الحر، وخروج على تقاليد النظام العالمي الجديد… ثم مَن قال إن أولاد الفقراء ينجحون كأطباء ومهندسين وعلماء في الذرى؟! ولماذا تتكبد الدولة المليارات على تعليمهم، على حساب الإنجازات الملحة كالأوتوسترادات ومداخل بيروت (المؤدية إلى الوسط التجاري) والمؤسسات السياحية كالفنادق الفخمة؟! وهل نترك لإسرائيل الميدان حراً فتستقطب الأشقاء الموسرين من أهل النفط والمقاولات النفطية وتسحبهم إلى فنادقها ومسابحها وعلب الليل فيها، بينما نحن مشغولون بترميم المارس أو إنجاز المدينة الجامعية أو توحيد الجامعة الوطنية المهيضة الجناح أو تخفيض الأقساط في المدارس الخاصة بحيث تفسد وتصير كما التعليم الحكومي مباحة لكل من هبّ ودب؟!
*ضمن هذه السياسة الحكيمة أيضاً وأيضاً اعتمد أصحاب الدولة مبدأ زيادة عدد الوزارات حتى لا يظل بين أولاد العائلات العريقة أو بين أمراء الحرب من يشكو الغبن أو الحرمان.. أليس من الأفضل أن يدخل هؤلاء إلى ملكوت الدولة بدل أن يأخذوها مقسمة إلى قصورهم، القديم منها والمستحدث؟! ليأخذوها موحدة، فهكذا نصون وحدتها، وليس مهماً أن تبهت صورة الدولة مؤقتاً، فصور أصحاب الدولة تغطي شاشات التلفزيون وتضيء البيوت جميعاً بالفكر والنير… وبالألوان؟!
صحيح أن الخدمات قد تناقصت واختلت بقدر ما تزايد عدد الوزراء ولكن العائلات التي توارثت الحكم كابراً عن كابر راضية، وكذلك الفعاليات التي أخذت الحكم من الشارع وبقوة البندقية الطائفية، وبهذا انعدمت المعارضة أو هي اتقصرت على بعض الموتورين من ورثة الأفكار الهدامة الذين لا يريدون الاعتراف بحقائق الحياة المعاصرة… حقائق ما بعد “عاصفة الصحراء”، وما بعد اتفاق غزة – أريحا، وما بعد سيادة منطق اقتصاد السوق في العالم أجمع، وهو منطق مقدّس منذ القدم… ألم تقل الكتب المقدسة، قبل آلاف السنين: مَن معه يعطى ويزاد ومَن ليس معه يؤخذ منه؟!
بعد سنة من الانتخابات الاستثنائية التي جاءت بهذا المجلس الاستثنائي، الذي استولد هذه الحكومة الاستثنائية، لمواجهة الظروف الاستنثائية، صار الحلم الأعز أن يعود لبنان إلى حالته العادية جداً، بل وما دون العادية.
آن أن تمزق شرنقة الأوهام التي حوصر فيها الناس فكادوا يهلكون!
إن لبنان اليوم هو واحد من أغلى بلدان العالم،
وكذب صريح وفاجر هو ذلك الادعاء بأن كلفة الحياة اليوم أقل مما كانت عليه قبل عام، وإن تثبيت سعر الدولار قد جنب البلد كارثة اقتصادية.
إن الأسعار ترتفع يومياً بحيث تصبح القيمة الفعلية للدولار ثلاثة آلاف ليرة أو يزيد، حتى لو قالت كل البيانات الرسمية أن سعر صرفه لا يتجاوز ألفاً وسبعماية وعشرين ليرة.
إن الدولة تكاد تضمحل، والمؤسسات بما فيها الحكومة والمجلس النيابي والإدارات العامة تكتسب أكثر فأكثر ملامح كاريكاتورية: فالحكومة هي جسم هيولي لا شكل له ولا برنامج ولا فعالية، لا هي جبهة ولا هي تحالف ولا هي إطار لمجموعة من التكتلات المتنافسة أو المتكاملة، وكل أهل الحكم راغب في تعديلها، (والبعض في تبديلها)، لكن لكل منهم سبباً مختلفاً، وأبسط الإجراءات تشعل حروباً (كحكاية رئاسة اللجنة المالية)…
والمجلس النيابي حسم بلا روح، تزدحم قاعاته بممثلي الشعب، لكن الشعب يظل خارجاً، أما لأن هؤلاء لا يملكون أن يقرروا في أبسط الأمور، وأما لأن ما يقررونه لا يتم التزام الحكومة به، فيجأرون بالشكوى ولا من مجيب.
أما الإدارات فمعطلة حيث الرأس فعال وصاحب رأي وحريص على الدولة، ونكايا للأزلام وأصحب الراتبين حيث ثمة مصالح حيوية لأصحاب الدولة…
ولقد كان ممكناً التغاضي، أو الاستمرار في التغضي، عن هذا الواقع المزري لولا اقتراب الموعد الخطر مع التحدي الأقسى، مواجهة مقتضيات السلام المفروض مع العدو الإسرائيلي.
لقد كان لأهل الحكم في لبنان سقطاتهم ومباذلهم ووجوه قصورهم دائماًز
وهم قد عجزوا على امتداد نصف قرن عن بناء دولة، أو أنهم لم يريدوا فعلاً أو لم يعرفوا حقيقة كيف يحوّلون الكيان الطوائفي إلى دولة جامعة تنقل اللبنانيين من الانقسام والتخلف إلى مستقبل الوحدة والتقدم إلى قلب العصر.
إنها ساعة الحقيقة،
ولا أحد يذهب إلى حرب المصير مع عدوه بأسلحة فاسدة،
وإذا كان لبنان ساحة الحرب الأصعب، حرب السلام الإسرائيلي، فمن الضروري التأكد أنه قد أعد نفسه، وضمن ظروفه، لمثل هذه المهمة النبيلة وشبه المستحيلة،
والمطلب دولة عادية جداً بحكومة عادية جداً ومؤسسات عادية جداً وإدارة عادية جداً، والباقي يتكفل به “المواطن” الذي وحده أثبت “استثنائيته”، إن في حيويته أو في قدرته على التكيف، أو في قدرته على اقتحام الصعب كما في صلابته في مواجهة عدوه.
… لاسيما وإن القرار السياسي حيث يجب أن يكون، في هذه المرحلة الفاصلة. ولعل من حظ لبنان أنه محمي بدمشق ومحصن فيها، وأنها تخوض معركة تحرير أرضه مع معركة تحرير أرضها حكماً، فما ينطبق عليها ينطبق عليه.
وفي ضوء هذه الحقيقة فإن مناقشة الاهتراء الرسمي ضرورة لحماية القرار السياسي العتيد، وإلا عجز الجسم المتهالك عن تحمّل التحدي المطلوب.