لم يعامل العرب جمال عبد الناصر كرجل فرد في أي لحظة، على امتداد تاريخ علاقتهم به.
كان ثمة مئة مليون عبد الناصر نبتوا ونموا وعاشوا في صدر المئة مليون عربي، وتكاثروا بتكاثرهم، كما الملامح الوراثية، في الأبناء والأحفاد.
مثله مثل الفرح والحزن والغضب والرغبة والطفولة والطموح والتعب والإرادة: كان يسكننا. وكان موقفنا منه يتشكل ذاتياً. نلتفت نحوه بالحنق معاتبين، أو نتوجه إليه بالشكوى أو نحتد أكثر فنخاصمه ونلبث أياماً لا نكلمه، أو تستثيرنا شجاعته في موقعة فنخصه بتحية ثم ندعوه إلى مسامرة حول المعارك الباقية التي منحت أيامنا أسماءها الجديدة.
مثله مثل الفكرة والرمز والحلم والشعر والكلمة الأقوى من قدر: كان انبعاثاً، وكان انبثاقاً ولحظة ميلاد للشمس الموعودة بعدما غيبها طويلاً رحم الليل والقهر والانكسار والخوف الأعمى.
مثله مثل الثورة والوحدة والقوة والمجد والاشتراكية والحرية: كان انتماء إلى المستقبل قوياً بزخم تجسيده للماضي، بالأزمنة المضيئة فيه والأزمنة الرديئة.
ولأنه إنساني إلى هذا الحد، ظل أكبر من الانتكاسات والهزائم والأجهزة والأخطاء المتحدرة من أصلابنا، والتي تطالعنا وجوهها في مرايا بيوتنا صبحاً ومساء.
لا فرداً، كان، ولا أسطورة ، ولهذا بقي فينا، في كل واحد منها وفي رايات نضالنا الذي لم يبدأ به ولا به انتهى… وكذلك بقي هدفاً رئيسياً لأعدائنا جميعاً، فاستمروا يقاتلونه فينا، إذ لم يجدوا وسيلة للخلاص منه غير القضاء على المئة مليون عربي.
ولقد شهدناهم في حروب الردة والتراجع يوجهون سهامهم الأولى إلى اسمه، إلى صورته، إلى صوته، إلى أشيائه الحميمة، وكان القصد إنزاله من مرتبة “الأسطورة” إلى مرتبة “الفرد”، وكل فرد إلى زوال…
وشهدنا أعداء أمتنا يصرون على إقناعنا بالعكس تماماً: يصورونه لنا أسطورة وحسب، وينكرون عليه إنسانيته، وبالتالي علاقتنا به، أي علاقتنا بأيامنا الأعز وطموحاتنا العظيمة.
والهدفان متكاملان فالمطلوب اندثار صورة المقاتل العربي، وفكرة الثورة العربية، والطموح العربي إلى الاشتركية، والنضال العربي من أجل الحرية… حرية كل الشعوب في أربع رياح الأرض.
لكن الهدفين سقطا معاً، ليس فقط لأن جمال عبد الناصر حقيقة نضالية عربية كبرى، بل لأن أعداء هذه الأمة حقيقيون أيضاً. فلا عبد الناصر أسطورة ولا إسرائيل، ولا إرادة التغيير العربية أسطورة ولا المصالح الأميركية والإمبريالية عموماً،
وإحدى أهم ميزات مرحلة عبد الناصر وتجربته أنه أنهى، بالنسبة للمواطن العربي، عصر المعجزات والخوارق والأساطير، فجعله أقرب إلى حقيقته هو كما إلى حقائق أعدائه الكثر.
ولا ضير في أنه فعل ذلك مرة بالنصر ومرة بالهزيمة، فمواجهة الحقائق هي بداية الطريق إلى الانتصارات الكبيرة كالتي تطمح إيها وتحتاجها أمتنا المجيدة.
وأكثر ما يطالبنا عبد الناصر، اليوم، بأن نراه من خلال حقيقته هو، وحقيقته فينا، وليس من خلال الأوهام والغيبيات التي ينسجها بعض المتعبين أو القاعدين عن النضال، ولا بالطبع من خلال تخرصات أعدائه – أعدائنا.
و”السفير” قدمت وتقدم في هذا العدد، وفي الأعداد المقبلة، إسهاماً في الاقتراب من عبد الناصر الحقيقة، مفترضة إن هذا الجهد هو أكرم تحية إلى القائد والزعيم والمعلم.