لا مجال لحوار سوى حول “الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني”،
أولاً لأن زمن الحوار صار بين ذكريات الماضي، وربما كان استحال الاتفاق لو أن الحاضر كان يتسع بعد للحوار بين “الفلسطيني” وبين “العربي”،
ثانياً لأنه “اتفاق” أي ثمرة حوار آخر، مضاد، وبديل من “الحوار العربي – الفلسطيني”. لقد حل “الإسرائيلي” مكان “العرب” كمحاور بل وكشريك في الوجود وفي المصير.
وثالثاً لأنه “اتفاق إسرائيلي – فلسطيني”، وبالتالي فهو مقفل دون الأطراف العربية بالتحديد، إلا من حرّض الفلسطيني او جعل نفسه دليلاً له لكي يتقدم فيغطيه وينقذه من “فرادته”، كما النظام المصري، أو من تواطأ فشدد الحصار على “الفلسطيني” ليعطيه مزيداً من المبررات للتفرد، أو من أشاح ببصره حتى لا يرى ما لا يحب أو يريد في حين أنه غير قادر على منعه.
إن الحوار و”الاتفاق” نقيضان يلغي أحدهما الآخر، وانعدام الحوار إلى حد الخرس وهو بين الآباء الشرعيين لهذا الإنجاز التاريخي المدوني!
والحقيقة إن هذا الواقع ليس جديداً، وإن كان سيظل قادراً على توليد نتائج جديدة حتى تتبدل الظروف التي أتت به فيمكن تغييره.
من هنا تتركز المناقشات حول “اتفاق غزة – أريحا أولاً” على التفاصيل كمثل التوقيت والتفرد وبعض الصياغات، وليس على الأساس.
والمفارقة مفجعة في أن يتعذر إلى حد الاستحالة الحوار حول أمر بهذه الخطورة، من شأنه أن يرسم خريطة جديدة للحياة العربية بل ربما للكيانات السياسية العربية، وصولاً إلى اسم هذه المنطقة وهل تبقى “الوطن العربي” أو “العالم العربي” أو تستقر تسميتها الغربية “الشرق الأوسط”، نهائياً، انطلاقاً من أن التسمية الأولى بحت جغرافية وذات طابع رومانسي بينما الثانية هي السياسية والدقيقة بمدلولاتها؟!
لكن هذا كله بين النتائج وليس بين الأسباب.
فمنذ أن صار الفلسطيني أو صيّر “فلسطينياً” وخرج أو أخرج (بالرضا!!) من “العرب” لم يعد لـ “العربي” شأن أو رأي، في تسوية “المشكلة الفلسطينية”.
كان “العربي” طرفاً، بل هو الطرف المعني يوم كان الموضوع هو الصراع العربي – الإسرائيلي، فلما تقزم هذا الصراع إلى “سلطة وطنية فلسطينية على أي شبر من أرض فلسطين” كان طبيعياً أن يخرج “العرب” جميعاً ومعظم الفلسطينيين حتى لا يبقى إلا من يتسع لهم ذلك الشبر في أريحا!
ومع الوعي الكامل بالقوة الهائلة التي فرضت هذا الاتفاق الإسرائيلي – الدولي والتي تحميه حتى ليكاد يستحيل في المدى المنظور نقضه أو نسفه (إلا من الداخل الفلسطيني أو بزلزال عربي غير متوقع)، فلا بأس من تسجيل بعض الملاحظات أو بعض التداعيات على هامشه ولو من باب “الترف الفكري”:
1 – إن فلسطين “القديمة” مهددة بأن تنتقل من أداة ربط وارتباط، من قضية جامعة وموحدة إلى أداة فصل وانفصال وإلى حاجز بشري إضافي يزيد في تحصين الكيان الإسرائيلي.
2 – إن “الفلسطيني” الذي فصله “العرب” عنهم أو فصل ذاته (بالتواطؤ معهم) عنهم، مرشح لأن يتحول من طليعة عربية تتقدم في اتجاه “التحرير” ولو بالكفاح المسلح إلى طليعة إسرائيلية تتقدم لاجتياح “العرب” في مختلف أقطارهم بغير قتال.
وبغض النظر عن النوايا فإن فلسطين القديمة تتحول من منطلق للهجوم في اتجاه الوحدة والتحرر إلى مركز للهجوم المضاد على كل ما يجمع (أو كان يجمع) بين العرب!
3 – إن “الفلسطيني الجديد” الذي وُلد من رحم الانفصالية العربية مرشح لأن يأخذ “العرب الجدد”، الذين لا يقلون عنه انفصالية، إلى أفياء المشروع الأمبراطوري الإسرائيلي بدل أن يأخذهم كما كان مأمولاً إلى الدولة العربية الواحدة، التي كانت حلمهم ذات يوم والتي لم يعد يفكر فيها أحد ولا يطلبها أحد الآن.
وأي معنى يبقى للاعتراض على التطبيع خارج فلسطين إذا كان الفلسطيني – صاحب القضية – هو المروّج والمسوق والداعية لهذا التطبيع الذي أقر، (في الزمن الماضي!!) كسياسة بافتراض أنه قد يكون من الأسلحة الفعالة في محاصرة الكيان الصهيوني في انتظار توفر القدرة لاجتياحه حرباً أو استيعابه سلماً؟!
4 – إنه ليس اتفاقاً سياسياً مؤقتاً، هذا الذي تم.
إنه تأسيس “تاريخي” لتحالف إسرائيلي مع القيادة الفلسطينية، أو بالأحرى مع “الفلسطينيين”، أقله حتى يثبت العكس.
أي أنه ليس اتفاقاً لإنهاء حالة الحرب بين كيانين سياسيين (دولتين) كان بينهما نزاع عارض على الحدود أو على بعض الأراضي،
إنه إسقاط “تاريخي” لحق شعب في أرضه التي طرد منها وأخذت منه بالقوة، ولحق أمة في مستقبلها.
ومع التوكيد مرة أخرى أن “الفلسطيني” قد يكون الأول في المسؤولية، باعتباره المعني مباشرة وصاحب التوقيع، لكنه بالقطع ليس المسؤول الوحيد بل إن “كل عربي” مسؤول بدوره، وإن اختلفت النسب، فإن هذا “الاتفاق” ينتقل بالفلسطيني من موقعه الطبيعي إلى الموقع المضاد فيساعد أو يمهد أو يسهل لإسرائيل احتلال العرب بدل أن يكون الطليعة العربية لتحرير فلسطين.
لكأن الجميع قد تعاون وتعاضد ليجعلها “منظمة تحرير فلسطين من العرب”!
كانت فلسطين في الحلم العربي كما في العمل العربي، تختزل أعظم القيم والتطلعات.
كانت الهوية القومية لكل عربي، كما كانت بطاقة الانتماء إلى الثورة وإرادة التغيير، في الداخل كما خارج الحدود، هذه الحدود التي بسببها قامت إسرائيل والتي ستزول “بإزالة” إسرائيل.
وكانت فلسطين تجسيداً لكرامة الإنسان العربي، ولحقه المطلق في أرضه مطهرة من كافة أشكال الاستعمار والاستيطان والهيمنة الأجنبية والاستغلال الداخلي،
وكانت فلسطين رمزاً لممارسة الإنسان العربي حقوقه السياسية: فهي عنوان الديمقراطية، لأنه عبرها يؤكد حضوره، ويؤكد جدارته بتحمل مسؤولياته عن حاضره وعن مستقبله.
لم تكن فلسطين “قطراً آخر” أو “أرضاً أخرى”.
كانت فلسطين هي “الأرض”، بتحريرها تتحرر كل أرض، وبعودة أهلها إليها يصل كل عربي إلى تحقيق ذاته في كل ارضه.
وليس إلا عندما وقعت الهزيمة القومية في العام 1967 أمكن أن تصير “فلسطين” مسألة تخص الفلسطينيين وحدهم، وصار بالإمكان رفع شعارات واقعية، تكمن فيها خميرة الهزيمة كمثل القول: لقد صادرنا قضية فلسطين وجعلناها قضية كل العرب فضيعناها، فلنترك لأهلها أن يتولوا شؤونها ونقف من خلفهم ندعمهم، فذلك أجدى وأنفع!
ثم تعددت النغمات المروجة لهذا المنطق الذي كان يهدف إلى التنصل في مقابل المنطق الكياني الفلسطيني الذي كان يعتمد سياسة “التوريط”، وكان بينها على سبيل المثال لا الحصر:
“كيف ندعو العالم لتأييد فلسطين ونغيّب شعبها، لا بد من حضور الفلسطينيين ليمكن توفير التأييد الدولي…”.
أو “لقد بلغ الفلسطينيون سن الرشد، وباتت لهم قيادتهم، فلنحترم إرادتهم، ولنحترم خيار قياداتهم التي تعرف قضيتها وما يفيدها أكثر منا…”.
وصولاً إلى : “بأي حق نفرض على الفلسطينيين رأينا ونمنعهم من أن يقولوا كلمتهم في قضيتهم؟! كما الجزائري هو المقرر في الجزائر، والمصري في مصر، والعراقي في العراق، والسوري في سوريا، واللبناني في لبنان، فليكن الفلسطيني هو المقرر في فلسطين…”.
ثم: “ولماذا نكون ملكيين أكثر من الملك، وفلسطينيين أكثر من أبناء فلسطين؟! أليس أهل مكة أدرى بشعابها؟! إذن فليذهبوا أنى شاءوا، إنهم ليسوا أقل كفاءة أو وطنية من الآخرين…!”.
أو: “وماذا نفعت العروبة فلسطين؟! لقد ضيّعها العرب لأنهم ومنذ اللحظة الأولى أخرجوا شعبها من دائرة القرار وعطلوا دوره… فليعد الأمر إلى صاحبه وهو حر كيفما تصرف. له وحده الحق في أن يفاوض العدو ويساومه ويتنازل لو شاء… كيف بغير هذه الوسائل سيمكنه الحصول على اعتراف العدو؟!”.
وأخيراً: “لقد دفعنا كفايتنا من أجل فلسطين وباسمها. أفقرتنا فلسطين، وهدتنا الهزائم التي لحقت بنا بسبب فلسطين. جاعت شعوبنا بسبب فلسطين. استعبدنا حكامنا باسم فلسطين. ليأخذ الفلسطين فلسطينه ولو إلى الجحيم، وليتركنا نعيش، لعلنا نستعيد بعض حقوقنا المهدورة في أقطارنا. لعلنا أخيراً نشبع!!”.
الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني عقوبة إضافية للمواطن العربي.
لقد تم اغتيال أحلامه جميعاً، بعد اغتيال حقائق حياته “القديمة”.
إنها نقطة تحول فعلاً نحو تاريخ جديد لا مجال فيه لأن يحلم الإنسان العربي بغده الأفضل.
وليست مسؤولية “الفلسطيني” إلا بعض مسؤولية “العربي” عموماً.
لكن لا مجال لتبرئة أحدهما، فالانفصال أيضاً يحتاج إلى طرفين… وكذلك التحالف!