ما سمعه اللبنانيون من وارن كريستوفر، مساء أمس في زحلة، لا يطمئنهم كثيراً مع أنهم افترضوا أو أوهموا أنه قد عدل رحلته خصيصاً لكي تشمل لبنان بقصد تطمين أهله الذين ما زالوا يعيشون في أسار كابوس الاجتياح الإسرائيلي.
ونتمنى أن يكون الرؤساء الثلاثة ومعهم وزير الخارجية قد سمعوا من الضيف الأميركي الكبير (الذي انتقلت الدولة بقضها وقضيضها من بعبدا والمصيلح وقريطم وحي السراسقة في بيروت إلى “حوش الأمراء” لكي تنعم بلقياه)، ما هو أكثر وضوحاً من الجمل المبهمة والكلمات المتقاطعة التي أطلقها في المؤتمر الصحافي الليلي، والتي تجنبت إعطاء إجابات محددة على الأسئلة المعلقة والمقلقة والتي تحرم اللبنانيين هناءة النوم!
على أن أخطر ما في منطق وزير الخارجية الأميركية أنه يبني على نتائج الاجتياح الإسرائيلي للبنان بامتداد الأسبوع الماضي، وينطلق منها كثوابت بل كإنجازات كان لا بد من تحقيقها لكي تندفع “مسيرة السلام” قدماً إلى الأمام!
لم يقل وارن كريستوفر كلمة واحدة توحي باستنكاره اجتياح القتل والتدمير والتهجير او تعبر عن لقله لاحتمال أن تؤثر “أعمال العنف” هذه على “مسيرة السلام”، أو تشي بأنه يتخوف من انعكاساتها سلباً على مواقف الآخرين!
وهو وإن كان لم يُسقط واجب “التعزية” بالضحايا وإظهار الأسف على تدمير نصف الجنوب تقريباً وتشريد نصف أهله، ومعهم أكثر من عشرين ألفاً من أبناء البقاع الغربي، فإنه قد رأى في موت من مات وتشريد من تشرد وتدمير ما دُمر رصيداً إضافياً للمسيرة المباركة وليس شغباً عليها!
ثم إن المجاملة ذات الطابع الأخلاقي والتي تعززت بتذكيره بالمساعدات الإنسانية التي قدمتها الولايات المتحدة الأميركية للبنانيين (كضحايا)، لم تؤثر إطلاقاً على صرامة موقفه السياسي والذي تجلى – أكثر ما تجلى – عبر أول تصريح أطلقه وهو يركب الطائرة آتياً إلى المنطقة، وفي ما يفيد بأنه يأمل أن يتعظ الجميع بـ “الدرس اللبناني” وأن “يتعلموا الذوق من المعلق فوق”، فالعصا لمن عصى ولا مجال لمهادنة المتمنعين أو المترددين أو المشترطين، فما تنفذه إسرائيل ليس خارج التخطيط الأميركي ولا هو يهدده أو يؤثر بالسلب عليه!
لم يأت، إذاً، وارن كريستوفر كبابا نويل يحمل الهدايا، بل أتى بدفتر الشروط: لا بد أن تستمر “مسيرة السلام”، وعلى العرب أن يؤمنوا – ولو بلحومهم – استمرارها، ولسوف تتكفل الطائرات الحربية الإسرائيلية والمدافع الثقيلة الإسرائيلية بفتح الطريق كلما سده “التطرف” العربي أو التمسك بتطيمنات ما قبل مدريد!
لا ذكر للقرار 425.
لا حماسة للحديث عن انتشار الجيش في الجنوبن وتحديداً في منطقة عمل قوات الأمم المتحدة.
رفض مطلق للنقاش في احتمال، مجرد احتمال، التخلف عن الجولة الحادية عشرة للمفاوضات الثنائية المباشرة بين العرب و”عدوهم” الإسرائيلي.
لا تطمينات بالنسبة لمستقبل الجنوب في مواجهة مخاطر الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو انتشر الجيش في أنحائه كافة.
في ضوء ذلك كله يغدو كلام الوزير الأميركي عن ضرورة عودة النازحين أقل حرارة وأقل دلالة – بالمعنى السياسي – مما كان متوقعاً.
على أن “الزيارة” تظل مهمة جداً إذ أنها تؤكد ما قالته المدافع الإسرائيلية طوال أسبوع كامل من التدمير المنهجي للجنوب، أي: إن صفحة قد طويت وصفحة جديدة قد فتحت في العلاقات العربية – الأميركية، واستطراداً في المفاوضات العربية – الإسرائيلية والدور الأميركي فيها.
لكأنما انتقل “الوسيط النزيه” ، في عهد كلينتون، من خلف الإسرائيلي إلى المقدمة وأردف الإسرائيلي خلفه.
كان العرب يفاوضون أو يأملون أن يفاوضوا الإسرائيلي وفقاً لشروط أميركية ولكن عليهم بعد الآن أن يفاوضوا الأميركي بشروط إسرائيلية.
ومرة أخرى علينا في لبنان أن نستذكر مضمون ورقتي العمل الإسرائيليتين التي قدمت أولاهما إلى الوفد المفاوض في الجولة التاسعة فصدعت المواقف والصفوف حتى أمكن معالجة الموقف واستعادة التماسك، أما الثانية فقد قدمها الإسرائيلي في ختام الجولة العاشرة وهي أخبث وأخطر من ورقته السابقة، وأبسط توصيفاتها إنها “لغم” يستهدف العلاقات اللبنانية – السورية، وبالتالي ركائز الوحدة الوطنية في الداخل ومستقبل كيانه السياسي… مع الاحترام الشديد لاحترام كريستوفر لاستقلال لبنان.
ولعل المدافع الإسرائيلية قد فتحت الطريق أمام كريستوفر لكي يقنعنا بأنه ليس أمامنا إلا خيار من اثنين: إما القتل وإما الانتحار!
هذا، في انتظار أن تتضح المواقف، وأن تنكشف أسرار خلوة نصف الساعة الأخير فلعل فيها الأمان المفتقد!