لنتفق، بداية، إننا جميعاً في “المخيم الواحد”، وحقيقة إننا نقتتل لا تلغي حقيقة وحدة “المخيم”، ولا وحدة مصير المحاصرين فيه جميعاً من لبنانيين وفلسطينيين ومعهم السوريين ثم سائر العرب.
ولنتفق ، ثانياً، إن الأزمة الخطيرة التي نواجه والتي تكاد تلتهم كل الناس وكل شيء، ليست مسألة إنسانية وأخلاق ومعونات وحليب أطفال يمكن أن يحلها الصليب الأحمر أو وكالة غوث اللاجئين، كما إنها ليست مسألة أمنية تحلها أعداد إضافية من رجال الشرطة أو الدرك أو المراقبين، بل هي أزمة سياسية من الدرجة الأولى تكاد تختزل أزمة المنطقة العربية برمتها في هذه اللحظة السياسية الحرجة.
فالكل في “المخيم”: مقاتلون أو مقتتلون أو قتلى أو مرشحون للقتل، هذا حتى لا نذكر “القتلة” ممن يضحون بمن في “المخيم” هنا في محاولة لحصر النار بعيداً عن حدودهم الكرتونية التي جعلت الأرض العربية وأهداف النضال العربي مزقاً تكاد تذروها الريح الأميركية – الإسرائيلية في كل اتجاه.
من هنا فإن الحل، الفوري والحاسم، مطلوب باسم الجميع ومن أجل الجميع،
ليس مطلوباً فقط من أجل الفلسطينيين في مخيماتهم في ضواحي بيروت أو في جنوبي لبنان، والمهددين بالأمراض والأوبئة والباحثين عن “فتوى” تجيز لهم أكل لحوم البشر، على حد ما تقول ماكينة عرفات الإعلامية.
وليس مطلوباً فقط من أجل حركة “أمل” أو حتى الشيعة وبقصد مساعدتها على الخروج من مأزق تورطها في حرب المخيمات.
وليس مطلوباً فقط، من أجل السوريين المعنيين بهذه الأزمة بحكم دورهم المسلم به في لبنان عموماً، وبحكم مسؤولياتهم القومية المتزايدة نتيجة موقفهم ودورهم الذي لا بديل له في الصراع العربي – الإسرائيلي.
المطلوب حل عربي، لأزمة حقيقية، هي بين أخطر ما واجهته الأمة العربية في عصر الهزيمة الذي يكاد يبدو بلا نهاية.
فالأزمة من طبيعة قومية حتى ولو بدا وكأن أطرافها “كيانيون” و”إقليميون” وربما “مذهبيون”، وحلها لا يكون ولا يجوز أن يكون إلا قومياً، وإلا استمرت وتفاقمت لتكون “فتنمة كبرى” معاصرة لا تبقي ولا تذر، خصوصاً وهي تتم في العصر الأميركي – الإسرائيلي وهو هو بالذات الوجه الآخر لعصر الهزيمة العربية.
نحن جميعاً في المخيم الواحد،
ونحن جميعاً محاصرون، نكاد نفتقد الهواء الكافي للتنفس، وليس فقط المواد التموينية والاسعافات الأولية.
فعلى امتداد مائة يوم أو يزيد ونحن ننام (إذا نمنا) على دوي صوت الخطأ ونستفيق عليه متفجراً وحشي الصدى والتأثير المدمر.
ولم يكن يزيد على خوفنا وذعرنا وبؤسنا إلا إحساسنا بالعجز وهو مفجع أكثر من القتل ومن الانتحار الجماعي.
فالمذبحة متواصلة حصدت وتحصد عشرات ومئات من اللبنانيين والفلسطينيين وتحصد معهم وعبرهم ما هو أغلى من حياتهم ومن موتهم ذاته.
فهي تحصد قدرتنا على الرؤية والتمييز بين العدو وبين الشقيق، بين القضية العادلة والقيادات المنحرفة، بين الخطأ وبين الخطيئة.
لقد سقطت أو أمحت، تقريباً، صورة العدو الإسرائيلي، العدو القومي، بكل ما يعنيه ذلك من نتائج سياسية مفزعة… فالفلسطيني هو “العدو”، الآن، في عين من يحاصر المخيم، والمنتمي لحركة “أمل” بل ربما “الشيعي” على وجه الاطلاق هو “عدو” الفلسطيني، ولا مجال لتذكير أي منهما ولا حتى كليهما بالعدو القومي الواحد، وإن ظلت مواجهة هذا العدو هي ذريعة اقتتالهما اللاغي لأية حالة عداء خارجية.
جملة معترضة: هذا في حين تستعرض الولايات المتحدة الأميركية أساطيلها في البحر، على مرأى منا جميعاًن وتستقر بعض الحاملات والبوارج في ميناء حيفا المحتلة، ويتأهب جنودها للقيام، بأمر ما، على حد تعبير وزير خارجيتها جورج شولتس، الذي خرج على كل الأصول والأعراف واللياقة والأدب وسفح هيبة الدولة العظمى وتحول إلى “أزعر” أو “شبيح” كالذين يتحكمون في بعض زواريب بيروت ويفرضون لغتهم “وتقاليدهم” في التخاطب والتعامل وتحقيق الأهداف السامية..
كذلك فقد ضاعت “القضية”، إذ صارت “زغداريا” أهم من حيفا إياها، ومغدوشة أهم من بيت لحم، وصيدا أهم من القدس، وبيروت أهم من فلسطين مجتمعة من النهر إلى البحر،
وبالمقابل ضاعت “القضية” الأخرى، التي عنوانها تحرير لبنان، الأرض والإنسان، من الهيمنة الفئوية في الداخل، ومن الاحتلال الإسرائيلي وتداعياته المنطقية واختراقه الواقعي للنسيج الاجتماعي اللبناني.
ومفارقة مفجعة هي الصورة التي تظهر، ولو في الشكل، أمين الجميل – إياه – الكتائبي، رمز اتفاق 17 أيار، على طريق دمشق، في حين تظهر خصومه من حلفاء دمشق وكأنهم على تعارض مع دمشق وبسبب من الموضوع الفلسطيني الذي لم نعرفه في أي يوم منفصلاً عن سوريا وفي موقع التضاد والتصادم معها.
والمفارقة المفجعة الأخرى تظهر واضحة إذا ما قارنا، على هذا الصعيد، بين ما جرى في مصر وما يجري في لبنان الآن.
فمصر التي اقتيدت أسيرة إلى كامب ديفيد لم يتمكن جلادها من محو صورة إسرائيل العدو في عينها، بل لعل تلك الصورة تحديداً قد استقرت في وجدان المصريين بعد خيانة السادات كما لم تكن في أي يوم، تندرج في ذلك كل المحاولات الهادئة والدبلوماسية لرفض سياسة التطبيع، أو المحاولات الصاخبة لحذف السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وصولاً إلى التصدي بالرصاص للأعداء الممتهنين كرامة مصر وشعبها كما فعل سليمان خاطر في سيناء “المحررة”.
أما هنا في لبنان فقد أضاع الطرفان الأكثر مقاومة أو الأكثر استعداداً للمقاومة ضد إسرائيل، الطريق إلى الهدف الصحيح فاقتتلا بدل أن يقاتلا، كما قاتلا معاً جيلاً بعد جيل العدو القومي الواحد.
ومهم أن نسمع من قيادات عربية مسؤولة، كمعمر القذافي وعبد السلام جلود، شهادات عن عطاء جبل عامل، وعن دوره الثابت والمكتوب بالدم في نصرة فلسطين القضية والشعب، اللاجئ والمقاتل بالسلاح من أجل التحرير.
ولكن الأهم أن يساعد العرب جميعاً في إيجاد الحل المطلوب لهذه المأساة المريعة التي تكاد تدمر ما تبقى من رموز النضال العربي داخل لبنان وخارجه.
الكل مطالب، ولا أحد يمكنه التبرؤ لا مما يحصل ولا من نتائجه المدمرة.
كل وطني لبناني مطالب، حزباً كان أو فرداً، من التقدميين الاشتراكيين إلى الشيوعيين، إلى الناصريين، إلى البعثيين، إلى القوميين السوريين الخ، إلى الشخصيات ذات التاريخ في العمل الوطني والقومي أو ذات المسؤولية عن صياغة المستقبل في لبنان،
وكل وطني فلسطيني مطالب، فصيلاً كان أم شخصية وطنية، في فتح – الانتفاضة أو حتى في فتح القديمة إياها، في الجبهة الشعبية أم في القيادة العامة، في المجلس الثوري أو في النضال الشعبي الخ، ومعهم خالد الفاهوم وعبد المحسن أبو ميزر وصولاً إلى المستنكفين والمتقاعدين أو المفروض عليهم الصمت والابتعاد عن أمثال عبد الحسن قطان ويوسف الصايغ وأنيس الصايغ إلى الذين يقولون غير ما يجب أن يقال مثل محمود درويش ويحيى يخلف وحتى سميح القاسم وبسام الشكعة خلف قضبان الاحتلال.
وكل ذي مسؤولية وذي حس قومي مطالب،
فالمطلوب حل عربي للعرب جميعاً: لبنانيين وفلسطينيين وسوريين وصولاً إلى اليمنيين والموريتانيين الخ..
فالموضوع يتصل أصلاً بقضية قومية هي القضية الفلسطينية وما استولده العجز عن المواجهة مع الكيان الصهيوني منذ لحظة قيامه على أرض فلسطين، أي الصرع العربي – الإسرائيلي المفتوح والذي سيبقى مفتوحاً حتى الهزيمة الكاملة أو النصر الكامل.
وسوريا كانت وما تزال وستبقى صاحبة دور لا غنى عنه ولا بديل منه لاستيلاد مثل هذا الحل العربي، المطلوب لمسألة قومية ملتهبة كالتي نعيشها الآن عبر حرب المخيمات.
ليس الآن مجال المماحكات والتذكير، أو المناكفة حول الشعارات الصحية شكلاً والغالطة مضموناً التي رفعت، من الجانبين، لتبرير معركة المنتصر فيها مهزوم والقاتل ضحية مثله مثل المقتول، وكلاهما أدوات في تنفيذ مؤامرة تستهدفهما والأمة معهما معاً.
ليس أوان التفريق بين الدم المقدس والدم المهدور، ولا بين الاقتتال الأهلي المرفوض في جهة والمقبول وربما المفروض والمرغوب به في جهة أخرى.
وليس محقاً أو عادلاً أو صحيحاً أن يرفع شعار “القرار الوطني المستقل” كذريعة لقتال الفلسطيني ضد اللبناني ثم يرفض من هذا العربي الآخر في لبنان شعاره المماثل.
فالشعار خاطئ لدى الطرفين إذا ما صار المعيار قومياً، أو إنه صحيح في الجهتين في زمن المعايير الكيانية والإقليمية والطائفية والمذهبية الخ…
فالسلاح الفلسطيني، مرة أخرى، دخل إلى لبنان بقوة العروبة، في لبنان، وبقوة العروبة في الوطن العربي كله، وبقوة انتماء حركة الكفاح المسلح الفلسطيني إلى نضال الأمة العربية في مشرقها ومغربها،
ولا يكون هذا السلاح، مهما تعاظمت فاعليته وغزرت قوة نيراته، مجدياً في التحرير إلا بقدر ما يكون “قومي” الهدف، وهو بهذا يصبح سلاحاً “للبناني” أيضاً، وليس سلاحاً ضده من موقع “شوفيني” ضيق الأفق ومهدد بالانحراف عن هدفه نتيجة لاستماتة قيادته في تحقيق أية تسوية على حساب القضية والشعب في فلسطين كما في كل أرض عربية.
وحين كانت المخيمات قلاعاً للعمل القومي والنضال القومي كانت رديفاً طبيعياً ومدداً لا ينضب للنضال الوطني اللبناني، وكذلك كانت الضواحي (أو حزام البؤس) – ضواحي بيروت وسائر المدن – بما هي تجمعات للفقراء والكادحين والمحرومين من وطنهم في لبنان، خزانات بشرية تمد بالمناضلين والمجاهدين أطر العمل القومي والتقدمي في لبنان وخارجه.
لقد كنا في مخيم واحد حصانته في عروبته، وحركة نضال أمته هي التي توفر شروط الحماية للجميع.
ومع تناقص الشعور القومي وغلبة الإقليمية والكيانية والقطرية أو الكتائبية ومن ثم الطائفية والمذهبية فقدنا جميعاً شروط الحماية وضمانات الاستمرار، وإن استمر تلاصقنا – ثم تقاتلنا – في المخيم الواحد ذاته.
من هنا فالحل يكون عربياً، ومن طبيعة قومية أو لا يكون،
فالضحايا هم العرب جميعاً، وأهداف النضال العربي جميعاً، وليس اللبنانيين أو الفلسطينيين وحدهم.
إن العرب جميعاً محاصرون في المخيم الواحد،
والأقدر على توفير الحل المطلوب، باسم العرب، ونيابة عنهم، هي سوريا.
ومنها بالتحديد يمكن أن تجيء المبادرة المنقذة، التي يمكن أن تتضمن في جملة ما تتضمنه المسعى الإيراني.
والحل يكون بفتح أبواب المخيم أمام الحل العربي وليس بالاعتصام فيه وتشجيع القائلين بالانتحار الجماعي توكيداً لصحة النظرية المبتكرة أو لدقة التحليل البوليسي للأنظمة أو للتاريخ.