طلال سلمان

على الطريق كلينتون – الشرع: لقاء فوق سلك من الفولاذ المحمى…

منذ عقود واللهجة السورية، من دون سائر اللهجات العربية، غير مستساغة بل وغير مألوفة في واشنطن… فقلة من المسؤولين السوريين يتقنون الإنكليزية، وأقل منهم في العاصمة الأميركية من هو ضليع في “السوربالوجي”، أو علم “فن قيادة حافظ الأسد في إدارة الأزمات وفي بناء العلاقات السياسية”!
ربما لهذا تم التعامل، إعلامياً، مع لقاء الرئيس الأميركي بيل كلينتون وزير خارجية سوريا فاروق الشرع على أنه “حدث استثنائي”، ورأى فيه المراقبون “تطوراً له أهميته الخاصة” على مستقبل “عملية السلام” كما على مسيرة الأحداث في بؤرة التوتر والصراعات التاريخية المسماة تجاوزاً “الشرق الأوسط”.
وليست مبالغة أن يقال إنه اللقاء الأول للرئيس الأميركي مع مسؤول “عربي”.
لقد سبق لكلينتون أن التقى مسؤولين “مصريين” و”أردنيين” و”سعوديين” وحتى “فلسطينيين”، وكذلك مسؤولين “لبنانيين”، لكن فاروق الشرع يكاد يكون “المسؤول العربي الوحيد” على هذه القائمة “العربية” في الشكل والمتعددة الاتجاهات والوجهات والاستهدافات غير العربية في المضمون.
والحقيقة التي اضطر إلى التسليم بها معظم العالم أن الموقف السوري يكاد يختزل الموقف “العربي”، وإن تناقضه مع العديد من مواقف الأنظمة والحكام “العرب” يؤكد “عروبته” في حين لا تفعل “هي” إلا محاولة التملص من عروبتها والارتداد إلى “القطرية” أو إلى “طلب السلامة” ولو على حساب الأمة بمجموعها.
وفي لحظات مصيرية معينة كالتي نعيش فإن كلمة “لا” ولو خافتة تكاد تختصر الموقف العربي، بينما لا تفعل آلاف من كلمة “نعم” إلا توكيد الخروج من العروبة وعليها.
في أي حال، فليس كمثل العلاقات السورية – الأميركية في تعقيداتها وإشكالاتها وحساسياتها المفرطة… إنها “نموذجية” بحيث تصلح مادة للدراسة كنمط فريد في بابه، لا لها “قبل”، ولن يكون لها على الأرجح “بعد”!
إنما كمثل السير حافياً فوق سلك من الفولاذ المحمى والمشدود: التوقف احتراق، والتراجع انزلاق إلى المهلكات، والتقدم منهك ولكن لا بد منه مهما اشتد العذاب!
فالذاكرة، على الطرف العربي تسلك، متخمة بحوادث سوء النية أو سوء القصد أو سوء التصرف، ولا مجال للتوقيع على بياض، أو لتصديق ما يعلن، فالريبة أعمق من أن يجرفها الكلام المنمق، وتاريخ التواطؤ والتآمر والتشكيك في المقاصد أحفل من أن تلغيه برقيات المعايدة أو كلام المجاملات المتبادل علناً عبر الأثير لهذه المناسبة الحميمة أو تلك.
وطبيعي والحالة هذه أن تكون الدولة الصغرى هي الأكثر تحفظاً والأعظم استرابة، ليس فقط لأن سوء الظن في الدول الكبرى من حسن الفطن، بل أيضاً لأن التحصن في قوقعة الشك يشكل حماية بدائية للذات،
وثمة صورتان للولايات المتحدة الأميركية في العين العربية متناقضتان كل التناقض بحيث يفرض التباين بينهما نوعاً من “الانفصام” في الموقف من واشنطن وسياساتها:
الأولى صورة أميركا – مبادئ ويلسون، التي أطلت على العالم عموماً والعرب خصوصاً عند نهايات الحرب العالمية الأولى، والتي كانت فيها واشنطن أقرب إلى موقع نصير الشعوب المضطهدة من أجل استكمال تحررها واستقلالها عن الاستعمار العثماني كما من الاستعمار الغربي “القديم” والمتجدد.
والثانية صورة أميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي اجتاحت العالم في أعقاب إلقاء القنابل الذرية على اليابان، وأطلت على العرب خصوصاً من الباب الإسرائيلي، وإن كانت قد احتفظت بمكانة مميزة حتى نهاية الخمسينات (ربما يمكن التاريخ بالإنزال الأميركي على الشاطئ اللبناني أثر ثورة العراق العظيمة في 14 تموز 1958 وبعد أقل من خمسة شهور على قيام أول دولة للوحدة العربية بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر).
عبر التجارب المريرة أخذت تبهت صورة أميركا ابراهام لنكولن وجورج واشنطن وبنيامين فرانكلين وصولاً إلى وودرو ويلسون، لتحل محلها صورة القوة العظمى الطامحة إلى وراثة الغرب الاستعماري كله وتحطيم الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشيوعي لفرض نفسها كقوة وحيدة ومتفردة في هيمنتها على الكون.
وعبر التجارب، كانت المعارك الأميركية الأكثر شراسة مع ذلك النفر من القادة العرب الذين قالوا “لا” ومن قال قولهم من قادة دول العالم الثالث الذي سرعان ما بات يعرف بعالم عدم الانحياز،
وهكذا بدأ الصدام مع جمال عبد الناصر في القاهرة (ثم في دمشق لبعض الوقت)، ثم تواصل – وبأشكال مختلفة – مع حافظ الأسد حين تسلم قيادة سوريا منذ مطلع السبعينات، ومباشرة بعد غياب “القائد التاريخي” لحركة النهضة العربية في العصر الحديث جمال عبد الناصر.
بين ميزات حافظ الأسد أنه يفكر طويلاً قبل أن يقرر، وإنه لا يقرر تحت ضغط الانفعال أو محكوماً برد الفعل العصبي على إساءة أو على العارض من مظاهر التجاهل أو الاستهانة.
وتجربة حافظ الأسد مع الأميركيين غنية جداًن وهي في مجملها مثيرة، فيها جوانب بوليسية، كما فيها مواقف درامية وفواصل كوميدية، وبالكاد اتخذت سياقاً واضحاً ومحدداً في السنوات القليلة الماضية.
لقد عرف الأسد، مباشرة أو من خلال المواجهات السياسية، سبعة أو ثمانية من الرؤساء الأميركيين، والتقى شخصياً ثلاثة منهم، ودائماً خارج واشنطن: الأول ريتشارد نيكسون في دمشق، 1974، ثم جيمي كارتر في أواخر السبعينات ومن بعده بحوالى عشر سنوات جورج بوش، في بداية التسعينات.
كذلك فقد التقى الأسد بضعة من وزراء الخارجية الأميركيين: فيهم الماكر الخبيث الذي لا يتورع عن ممارسة النفاق توصلاً لأغراضه مثل هنري كيسنجر، وللأسد معه مواجهات مشهورة استهلكت صفحات مطولة من مذكرات هذا الداهية من أصل ألماني يهودي والذي دمغ السياسة الأميركية في الثلث الأخير من هذا القرن بطابعه…
وفيهم الدبلوماسي المحترف مثل سايروس فانس،
وفيهم الحاقد الكاره والفظ في مسلكه وفي تعابيره مثل جورج شولتس،
وفيهم المفاوض الحازم والبارع جيمس بيكر، الذي يتعهد بقوة ممثل الدولة العظمى، والذي “يترافع” بفصاحة المحامي المقتنع بعدالة موقفه والمقرر أن ينجح بكفاءته الشخصية وليست بهيبة من يمثل،
وفيهم أخيراً وارن كريستوفر الذي تمتزج فيه الدبلوماسية بالمحاماة بعقلية رجل الأعمال والذي يبدأ معتذراً عن كبر سنة وينتهي وقد حاول أن يقرر مستقبل جيل أو أجيال آتين.
هذا إضافة إلى العديد من الموفدين الشخصيين من ذوي المراتب العليا في الإدارة وممن دربوا على المهمات المستحيلة من أمثال الجنرال وولترز ومانسفيلد وريتشارد مورفي وأخيراً وليس آخراً دنيس روس الذي حرص على معرفة آداب الحديث في مجلس الرئيس الأسد قبل أن يأتي للقائه مكلفاً بمهمة من الصعب نجاحها كما من المستحيل فشلها.
ولعل الرئيس الأسد قد احتل، ومن موقع “الخصم” أو “الصعبة صداقته”، منزلة لدى الأميركيين لم ينلها أي من “الأصدقاء” و”المقربين” من سلاطين العرب وملوكهم ورؤسائهم المرتهنين لإشارة رضا من سيد البيت الأبيض في واشنطن.
وما لا شك فيه أن حافظ الأسد قد وعى أهمية سوريا في خريطة المنطقة في أعقاب حرب تشرين، وضمن معطيات الواقع العربي، وتطورات لاأوضاع الدولية على امتداد السبعينات والثمانينات… ولأنه وعى تلك الحقيقة فهو قد أضاف إلى قيمة بلاده، ومن ثم إلى قيمته، ما جعله صاحب موقع مميز في العين الأميركية كما في السياسة الأميركية للمنطقة.
إنه “اللدود” الذي لا بد من “صداقته”،
وبالمقابل فواشنطن للأسد هي عاصمة الخصم الذي لا بد من مهادنته لتعذر الحرب معه، ولكن بغير الاستسلام لشروطه أو لشروط حليفه الإسرائيلي.
على قاعدة هذا الفهم المتبادل جرى لقاء كلينتون – الشرع،
إنها مرحلة جديدة في العلاقات المتوترة بين دولة كبرى لا حدود لهيمنتها، وبين دولة صغرى تتمسك كل التمسك بأن لا تفرض عليها القرارات والمواقف فرضاً.
وكم هو بائس رهان أولئك الذين يفترضون أنهم قد نجحوا أخيراً في شطب سوريا أو في إنقاص قيمة حافظ الأسد في واشنطن.
إنه اليوم أكثر أهمية ما كان في أي يوم مضى،
وهو اليوم يمثل “العرب” و”الموقف العربي”، ربما بأكثر مما يمثله الباقون مجتمعين، خصوصاً وإن لا رغبة لدى أحد منهم في التحدث باسم العرب أو تحمل المسؤولية عن موقفهم الموحد أو المشترك أو الملتزم بالحد الأدنى من موجبات التضامن ووحدة المصير.
وأعظم الضرر يقع على هؤلاء المراهنين في بيروت بأنهم قد نجحوا أخيراً في الوصول إلى واشنطن من وراء ظهر الأسد، أو أنهم قد احتلوا فيها مكانة ليست له، أو أنهم سيعوضونه ويفنون العاصمة الأميركية عن هذا الرجل الصعب الذي لا يريد أن يكون صديقاً حتى وهو يتخفف من أعباء مرتبة الخصم الأوحد للولايات المتحدة الأميركية في عالم النظام الجديد!

Exit mobile version