كان من الطبيعي أن تستقيل غولدا مائير، وأن تخرج نفسها من تاريخ إسرائيل بخطبة وداع بكائية كالتي ألقتها مساء أمس، فإسرائيل الحالية، إسرائيل ما بعد حرب تشرين، دولة أخرى لا مكان فيها لا لغولدا مائير، ولا لموشي دايان، ولا للمؤسسة العسكرية، خاصة… والثلاثة، في نهاية المطاف واحد، والثلاثة امتداد لرجل مات مع انطواء الحلم الإمبراطوري القديم في “عيد الغفران”، وكان اسمه دافيد بن غوريون.
وصورة إسرائيل الراهنة توحي وكأن “دولة اليهود” قد عادت بهم إلى التيه، وهي التي كانت تزعم لهم أنها إنما قامت لتنهي عصر التيه والشتات، ولو على حساب شعوب أخرى.
إن ما تشهده إسرائيل يتعدى مفاهيم “التقصير” والمحاسبة على التقصير الذي تسبب في خسارة الحرب الرابعة ضد العرب. إنه، وإلى حد كبير، شرخ في جدار الدولة التي وحدها من دون دول الأرض، يرتبط وجودها ليس فقط بقوتها، بل بعدوانيتها وشرط ذلك أن تكون أقوى من العرب مجتمعين.
فلا مجال لإسرائيل ضعيفة في المنطقة العربية. لا مجال لها كدولة عادية لشعب مطلبه من الحياة أن يعيش آمناً على غده. إن مثل هذا التحول يفضح الاصطناع الذي رافق إقامة إسرائيل، إذ يسقط مبررات الدولة تماماً… فاليهود كبشر كانوا يعيشون بين العرب على امتداد التاريخ، آمنين على أرزاقهم وعيالهم ومستقبلهم، ومشروع الدولة، الدولة الاستيطانية الاستعمارية المرتبطة عضوياً بالإمبريالية العالمية، والأميركية تحديداً، هو الذي حولهم من “مواطنين” في فلسطين العربية إلى “جيش استعماري مرتزق” بقاتل بالأجر لحساب الصهيونية العالمية والإمبريالية.
وفي وداع غولدا مائير لن تجد إسرائيل الدولة ما تفعله غير الحرب،
أما الإسرائيليون فأمامهم الكثير يفعلونه، غير الحرب طبعاً، كي يستعيدوا ، مرة أخرى، حقهم بالعيش في هذه المنطقة كمواطنين عاديين جعلتهم الأقدار يهودا وليس مسلمين أو مسيحيين يستمدون هويتهم وانتماءهم من الأرض وليس من الدين، ومن التاريخ لا من الأسطورة.