لا حاجة لأعمال الفكر وإرهاقه في “اكتشاف” الأهداف الحقيقية لجولة كيسنجر الجديدة في المنطقة العربية. الأهداف التي جاء من أجلها 9 مرات حتى الآن هي هي، وقد يجيء مرات ومرات إذا استمر قادراً على الإنجاز، أي على ضرب القدرات العربية اللازمة لأي تسوية سياسية مقبولة لزومها لأي جولة عسكرية جديدة مع إسرائيل.
وأهداف كيسنجر الأساسية يمكن حصرها في ثلاث مسائل كبرى، والباقي تفرعات:
المسألة الأولى – محاولة إنجاز فك ارتباط بين المقاتلين من العرب، وبشكل محدد بين مصر وسوريا، ثم بينهما أو بين كل منهما والمقاومة الفلسطينية.
وإلحاح كيسنجر على هذه المسألة مكشوف بل مفضوح، وصار الحديث عنه علنياً، ومحاضر مؤتمر القمة العربي في الرباط حافلة بالوقائع والإثباتات الدامغة على الدور التخريبي الذي لعبه كيسنجر لجعل العرب عربين والعربين أربعة والأربعة ثمانية وهلمجرا.
ولقد اعتمد، في هذا السبيل، حيلاً وافانين كثيرة منها العادي جداً مثل نقل الكلام مجتزءاً ومحرفاً، أو إيهام الطرف الثاني بموافقة الطرف الأول على ما يعرضه استدراجاً لموافقة هذا الطرف الثاني، فإذا وافق فعلاً عاد إلى الطرف الأول ليضعه إلى الجدار: الكل موافق إلا أنت فهل تتحمل مسؤولية نسف كل شيء، وهل تتخلى عن إخوانك في اللحظة الحرجة؟!
المسألة الثانية – محاولة فك ارتباط بين المحاربين العرب من جهة وأهل النفط العرب من جهة أخرى.
ولقد وصل كيسنجر في هذه المحاولة إلى ذروتها حين هدد، مباشرة، وشخصياً، باستخدام القوة العسكرية ضد عرب النفط.. وعمدت حكومته إلى “تسريب” خرائط وخطط مفصلة لمشاريع الغزو المعدة للتنفيذ، “فإذا ما ركب هؤلاء البدو رؤوسهم سنعمد إلى احتلال آبار النفط، حرصاً على الحضارة وأسباب التقدم الإنساني”!!
مؤسف القول إن معركة كيسنجر هذه كانت سهلة نسبياً، فمشايخ النفط وأمراؤه لم يترددوا كثيراً في النأي بأنفسهم وبنفطهم عن ميدان المعركة، وكانوا لما يدخلوه.
وكانت قسمة ضيزي: دفع المقاتلون دماءهم ثمناً لأرباح فلكية حققها أهل النفط ولسمعة وطنية ظلوا طول العمر – وما زالوا – يفتقرون إليها، ولم يدفع هؤلاء شيئاً بل قبضوا وما انفكوا يقبضون.
أكثر من هذا: تحول عرب النفط من قوة مساندة، حتى لا نقول مشاركة، للمحاربين إلى قوة ضاغطة عليهم لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وبالنتيجة إسرائيل. فتحت تأثير الخوف من الاحتلال، أو من اتحاد الدول المستهلكة، أو من حرب تجويع وحصار تفرضه الدول الصناعية المتقدمة، وغير ذلك من أسباب تتصل بالتاريخ وبطبيعة الأنظمة النفطية الأوتوقراطية والدكتاتورية وغير الشعبية بأكثريتها الساحقة، تحت تأثير هذا كله أخذ عرب النفط يضغطون – عملياً – على المحاربين العرب للقبول بأي تسوية.
وإذا لم يكن التخلي عن مصر وسوريا، والتنكر لدماء الشهداء الذين سقطوا في حرب رمضان المجيدة، ضغطاً فكيف يكون الضغط إذن وبماذا؟!
ليس الأمر شحاً وبخلاً، وإنما هو، ببساطة، إجبار الرافض من المحاربين على القبول، وتبرير للقابل المتعب من النضال: ماذا أفعل وحدي؟ ماذا يريد مني العرب الذين لم يعطوني شيئاً يذكر؟
المسألة الثالثة – محاولة فك ارتباط بين الاقتصاد والسياسة، وتحديداً بين البترول (والمواد الخام) والسياسة نهائياً.
وهذا الهدف يصير ممكن التحقيق إذا حقق كيسنجر الهدف الثاني.
والواضح أن التهديدات التي توجه إلى مؤتمر القمة للدول النفطية الذي سيعقد في أواخرهذا الشهر تستهدف محاولة التأثير على المؤتمرين بهذا الاتجاه: أي دعوا السياسة جانباً وتعالوا نتحدث في التجارة! لديكم نفط نحن مستهلكوه والقادرون على شرائه. ولدينا النقود. هاتوا نفطاً وخذوا نقوداً، ثم بعد أن ننتهي من هذا نتباسط في المواضيع السياسية!
الحسبة، إذن، بسيطة:
“فكوا ارتباطكم بعضكم ببعض، أيها المحاربون العرب،
فكوا ارتباطكم بالمعركة (مهما كان جزئياً) أيها النفطيون العرب،
فكوا ارتباككم بنفطكم أيها النفطيون العرب! خذوا الفلوس ودعوا لنا أن “نسوس” النفط ونسيسه، أما أنتم فتعالوا إلينا واشتروا أفخم العمارات وأحسن الأراضي وأقدم القلاع والحصون التاريخية!
وبعد ذلك: نتفرغ لتحقيق تسوية عادلة بينكم، أيها العرب، وبين إسرائيل!”
وأي عرب يبقى بعد هذا كله ؟ أي عرب؟
تلك هي المسألة… عربياً.
بانتظار أن نسمع من الذين ينتظرون العزيز هنري على أحر من جمر، في الطريق المسدود… أو نسمع عنهم!