سيذكر التايرخ لنظام الرئيس أنور السادات أنه غير مصر: غيرها سياسة وتوجهاً ودوراً، وغير نمط حياة شعبها وتطلعه، وغير حتى مواصفاتها الجغرافية فحولها إلى “جزيرة” تفصلها بحور من سوء الفهم وسوء التفاهم وسوء التصرف عن إخوانها وجيرانها والأقربين منهم بنوع خاص.
اختفت مصر – الثورة، القائدة والرائدة للأمة العربية،
واضمحلت مصر – الاختيار الاشتراكي فلم يتبق منها غير جثة الاتحاد الاشتراكي،
وظهرت مصر الجديدة والمختلفة جذرياً عن عصر القديمة، الناصرية: بدل الثورة جاءت السمسرة، وبدل راية التحرر والاستقلال الاقتصادي المؤكد والضامن للاستقلال السياسي ارتفعت راية “الانفتاح”، وما كانت مصر منغلقة أو مقفلة لكن الأميركان هم الذين كانوا يحاصرونها ويحاولون خنقها…
حتى بور سعيد يتم الآن تجريدها من شحنة الرمز النضالي العظيم فيها، ومن سمات البطولة والصمود الشعبي الرائع في وجه أساطيل القوى الاستعمارية المعتدية، لتستحيل منطقة “حرة” مثل هونغ كونغ السيادة فيها للسمسار والوسيط والقومسنجي والإنسان اللامنتمي عموماً لا إلى الأرض ولا إلى قضية.
في ضوء هذه التحولات يمكن فهم التطورات الدراماتيكية لأزمة العلاقات (والثقة) بين مصر وليبيا،
وفي ضوء هذه التحولات، أيضاً ، يمكن فهم الموقف العجيب الذي اتخذته القاهرة من أحداث لبنان، وبالتحديد من الكتائب التي كانت – تفاخر – إنها هي المتصدي بالسلاح للمقاومة الفلسطينية،
وفي ضوء هذه التحولات أيضاً وأيضاً يمكن فهم سر الاختلال في العلاقة بين القاهرة والمقاومة الفلسطينية، هذه العلاقة التي لا تكاد تصفو حتى تتعكر، ولا تتحسن إلا لتسوء مجدداً مندفعة باتجاه نقطة القطع،
وفي ضوء هذه التحولات، أخيراً، يمكن فهم العلاقة الشوهاء بين القاهرة ودمشق، والتشوه في هذه العلاقة واضح برغم التكتم، وبرغم التصريحات الكبيرة الكلمات الفخمة الرنين التي لا تعني – في خاتمة المطاف – غير إن الصمت زين والسكوت سلامة!
طبعاً يمكن ضرب عشرات الأمثلة المعاكسة إذا ما انتقلنا إلى علاقات مصر بالممالك والإمارات والمشيخات والسلطنات النفطية،
وبغير إجهاد فكر، وبغير تأويلات وتعليلات، يقدم نظام السادات صورة مصر 1975 واضحة تماماً: بينها وبين ليبيا سور من العداء يرتفع كل يوم بالتجنيات والاتهامات الظالمة، التي منها حكاية “شراء” الصحراء الغربية ومنها الرواية المسلسلة عن المحاولات الليبية المتكررة لاغتيال الرئيس السادات مرة “بقصف” استراحته جواً، ومرة “بتضليل” ضابط متحمس ومتطلع إلى السلطة، ومرة ثالثة بسرقة “ولاء” عشي أو سفرجي ليدس السم الخ!
وهذا السور لا يفصل مصر عن ليبيا وحدها، بل عن كل عرب المغرب،
في المقابل تقوم قوات الأمم المتحدة، في سيناء، وقوات العدو الإسرائيلي (وبينهما المراقبون الأميركيون للممرات الاستراتيجية) بدور السور الفاصل لمصر عن المشرق وعرب المشرق ابتداء بفلسطين وانتهاء بالقنيطرة السورية (مروراً بلبنان طبعاً وربما الأردن).
… ثم تسأل لماذا جرى في لبنان مثل الذي جرى؟
أو تسأل لماذا تتكاثر المؤامرات على سلامة المقاومة الفلسطينية، ووحدتها أبسط الشروط لتأمين سلامتها،
أو تسأل لماذا تتركز “الجهود” على إضعاف الروح المعنوية للمقاومة والطعن بشرعية قيادتها وشمول تمثيلها لشعب فلسطين سواء من بقي منه في أرضه المحتلة أو من توزع في أرض الشتات؟
ففي غياب مصر يحدث هذا وأكثر منه، وتستمر المحاولات لقطع كل شجرة منتصبة بشموخ فوق الأرض العربية، بحيث لا يبقى للريح إلا العلم الأميركي يخفق بنشوة التفرد،
لكن الأمل يبقى دائماً في أن وقائع التاريخ وعناصر الطبيعة والجغرافيا أقوى من التحوير والتزوير… والعلم الأيمركي!
بشهادة ما حدث ويحدث في جنوب شرقي آسيا، وفي أميركا اللاتينية، وفي أوروبا… وتحت أرضنا الفسيحة، الهادئة تماماً تماماً وبالقدر الكافي لتوقع هبوب العاصفة.