مرفوض “العربي” الضعيف في أي مكان من الدنيا،
مفروض على “العربي” أن يكون قوياُ، وقوياً جداً، حتى ينتزع حقه بالحضور،
ممنوع عليه أن يدخل عالم القوة، مريضاً أو مرتبكاً أو متنازلاً أو مفرطاً في حقوقه الكاملة،
ليلس للعرب الضعيف حق الحياة، وليس له أيضاً حق الموت.
الفلسطيني جورج حبش هو “العربي” بالمطلق، هو الرمز وهو الشخص، هو القضية وهو المبشر وهو هو المؤمن، هو القاتل وهو القصيدة.
حتى مرضه ليس شخصياً. إنه انعكاس لحال الأمة، والعطب في الدماغ، والشلل بعض النتائج، واضطراب الحركة السائد سياسياً ناجم عن حقيقة أن الأعضاء افتقدوا المرجعية والمركز و”الآمر” والموجه فضاعوا واضاعوا الطريق والهدف والراية التي تجمع وتهدي.
مرفوض “العربي” مريضاً، في عاصمة النور والحضارة والديموقراطية الغربية،
ومرفوض “العرب” ضائعاً، تائهاً، منقسماً، تابعاً، مقايضاً أرضه وحقه فيها ببعض فتات “الحكم الذاتي”، في موسكو التي “اهتدت” أخيراً إلى الليبرالية والتعددية واقتصاد السوق وحقوق الإنسان (اليهودي فقط) والتي تبيع أجداث أبطالها وتاريخها وعلائم مجدها بالمزد العلني ولا من يشتري،
ومرفوض “العربي” الضعيف إلى حد التلاشي من الكون كله، كما عبر أركان النظام العالمي الجديد المتحلقين الآن حول “معلمهم” مبتدع النظام وصاحبه جورج بوش في مجلس الأمن الدولي الذي تحول في عصر الأمين العام “العربي” للمنظمة الدولية إلى “حامل أختام” الملك الأميركي، يجسد رغباته قرارات، ويسبك لفتاته أوامر وعقوبات على عبيد الله الضعفاء الذي يزحمون عالم الإغنياء ويزعجونهم بفقرهم وإلحاحهم طلباً للصدقات.
فقط مع “العربي” صارت ألمانيا قوة عسكرية جبارة تطارد البواخر التي تحمل الدبابات التشيكية إلى سوريا، بينما صورتها في ذهن العالم إنها عملاق من الماركات فحسب،
“وما حدث هو الجنون بعينه”، يقول الرئيس الفرنسي ميتران،
والتكفير عن هذا الجنوب الذي تمثل في الموافقة على استقبال صفحة مشرقة من التاريخ العربي الحديث، اسمه جورج بوش، وبداعي العلاج الملح والاستثنائي، إنقاذاً لحياته المهددة بخطر داهم، سارع ميتران إلى طرد أكبر موظفين مدنيين في وزارة الخارجية وكبير مستشاري الشؤون السياسية في وزارة الداخلية ورئيسة الصليب الأحمر الفرنسي،
ولإثبات “عودة الوعي” إلى فرنسا، بعودة ميتران من زيارته “العربية” (إلى عُمان) فقد أعلن وزير الشؤون الاجتماعية جان لوي بيانكو أن “حبش قد اعتقل لاستجوابه”!!
لكن المعارضة الديموقراطية الحريصة على كرامة فرنسا وشرفها ورايات الثورة الفرنسية “الحرية، الإخاء والمساواة” تطالب باستقالة رئيسة الحكومة ووزيري الخارجية والداخلية، ولا تمانع في أن تجرف الموجة رئيس الجمهورية شخصياً.
وبمعزل عن المناورات السياسية الداخلية، فإن هذه المواقف الرعناء والعنصرية والمعادية للإنسان عمومامً، وللإنسان العربي خصوصاً، تكشف كم هي كاذبة ومزيفة وحقيرة ادعاءات السياسيين الفرنسيين (حكاماً ومعارضين) حول إيمانهم بشعارات تلك الثورة العظيمة التي يؤرخ بها لعصر جديد ما زال العالم يعيش في أفيائه حتى اليوم.
إن فرنسا أصغر من جورج حبش مريضاً.
ولقد تبدى جلياً أن كل القوى تحكم فرنسا بأكثر مما يحكمها أبناؤها: فالإسرائيليون والصهاينة الذين حاموا حول المستشفى كالذئاب الجائعة، والعنصريون، وقوى الضغط الأميركية، وجميع المنضوين في “نقابة أعداء العرب”، وجميع المنتسبين إلى جمعية المستفيدين من الهزائم العربية، هم الذين يصدرون القرارات الظالمة ملحقين بالتاريخ الفرنسي لطخة عار من الصعب أن تمحى.
سقطت أسطورة أخرى من الأساطير التي نسجها الغرب عن نفسه وسوقها وروج لها حتى استقرت في أذهان الشعوب المستضعفة وكأنها حقائب راسخة.
إن فرنسا – الحرية والعدالة، الإخاء والمساواة، داعية حق الإنسان في الثورة، الثقافة والديمقراطية، ملجأ المقهورين والمظلومين والطامحين إلى الحرية والكرامة، أضعف من جورج حبش الواقف على باب الموت.
ويا أبا ميساء: بقدر ما تضاءلت مساحة فلسطين وأهلها العرب والثورة في العالم تزايدت المساحة الإسرائيلية فيه،
وليس جديداً عليك أن تحاصر، وأن تحتجز، وأن يتهددك خطر الموت في أرض غير أرضك… فلمثل هذا نذرت نفسك بعمرك كله.
وسيأتي اليوم الذي يحاسب فيه من أوفدك إلى حيث لا يضمن لك السلامة، ولكنك – بضعفك، وبدماغك المعطوب، وبيمناك التي تحتاج اليسرى لكي ترتفع – أقوى مما كنت في أي يوم.
كل العرب محتجزون معك، مهانون عبرك، يتجرعون الذل ويفتقدون يمناهم فتعاصهم ويعز عليها امتشاق السيف المثلوم الحد،
و”أسوأ إرهابي في العالم” وسام جديد يضاف إلى أوسمتك العديدة، خصوصاً وإنه يصدر عن منافق فرنسي مشتت في توزيع ولائه على الأميركي والإسرائيلي والعنصري، تاركاً لبلاده سوء السمعة وانهيار أغلى ما كانت تفاخر أو تتاجر به في عالمنا البائس.
عالم الذين ما زالوا يحلمون حلمك في ثورة تحقق، للإنسان العربي، المساواة والإخاء والحرية.
… عالم يصيرون فيه أقوياء بحيث يقتحمون العالم ولا ينتظرون الإذن للموت فيه!
تمديد لجوء لبنان؟!
على هامش الكراهية الغربية للعرب، بغير تمييز أو تفريق، مر وسط صمت مطبق ذلك الخبر الذي لا يبشر بالخير، ومفاده أن الولايات المتحدة الأميركية قد أجازت التمديد “للاجئين اللبنانيين” الهاربين من مخاطر الحرب، في بلادهم، في حين إنها أنهت لجوء عرب آخرين (كالكويتيين) وهاربين من أقطار أخرى.
الأميركي ممنوع سفره إلى لبنان، وكذلك الدولار!
واللبناني اللاجئ إلى حيث الحرية تمثال، مجرد تمثال أخرس، مرحب به حتى إشعار آخر، ماذا تتوقع واشنطن للبنان؟! أو ماذا تدبر له؟!
فلم نتعود من الأميركي مثل هذه العاطفة على المقهورين واللاجئين طلباً للأمن.
غازي كنعان الإنسان.:
الحزن يكشف عمق الإنسان، ويسقط كل مظاهر السلطة، ولعله يؤكد كم هي باهتة في إزاء المشاعر والأحاسيس التي يشفها الألم ويبلورها في أروع تجلياتها.
غازي كنعان المفجوع بأخيه المرحوم فيصل كان في منزله الأبوي في “بحمره”، غير بعيد عن اللاذقية، طبيعياً كإنسان، رقيقاً في مشاعره، مكتوياً باللوعة، رؤوفاً بأبيه الشيخ المتماسك والمجتهد لمواراة فجيعته وراء تلك الابتسامة الموجعة.
ومن “بحمره” بعث غازي كنعان بنداء يشكر فيه الأصدقاء الذي بلا عدد على مواساتهم له بالحضور أو بالرسائل والبرقيات.
وغداً حين يعود غازي كنعان، العميد الركن رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية العاملة في لبنان، ستكون في عينيه تلك الدمعة الخرساء التي لم يستطع إطلاقها إشفاقاً على من حوله وأساساً على أبيه المريض والصلب كسنديانة جبلية صامدة.