طلال سلمان

على الطريق جولة سريعة على هموم عربية أين أمين الصندوق ياسي الأخضر؟!

… وأخيراً عاد إلينا الأخضر الإبراهيمي، بعد فترة هجر طويلة بدا خلالها وكأنه مبعد أكثر مما هو بعيد،
ومع الترحيب بسي الأخضر فثمة في بيروت من كان ينتظر غيره، أو من ينتظر أن يأتي مع الإبراهيمي مثلاً “أمين صندوق” اللجنة العربية العليا، أو القمة العربية التي لا أعلى منها إلا الله سبحانه وتعالى.
فالإبراهيمي حقق في جولاته الأولى ضمن نطاق مهمته نجاحاً طيباً بكفاءته الشخصية وحنكته وقدرته على الإقناع بالمنطق والحجة والبرهان… لكن الوضع الراهن صار أكثر تعقيداً من أن تنفع في حسمه مقارعة الحجة بالحجة، ودحض منطق الخصم، وصار يتطلب أكثر من “سيارة إسعاف” و”شرطة نجدة” وبيان تأييد متين السبك قوي الدوي.
وإذا كان من حق الإبراهيمي أن يقول أن له سهمه ودوره المميز في إيصال اللبنانيين إلى اتفاق الطائف الذي شكل أساس “دولتهم الجديدة” وشرعيتها الوليدة، فمن واجبه الآن أن يعمل – مع اللبنانيين – لإنقاذ الاتفاق الذي أريد له أن يكون وصفة الإنقاذ والذي يكاد يتحول إلى أمنية صعبة التحقيق!
ومفهوم أن الأخضر الإبراهيمي شخصياً لم يدخر جهداً إلا وبذله في هذا السبيل، ولكن الذين تحرك باسمهم ونيابة عنهم والذين كان يفترض أنه يستند إلى تعهداتهم واستعدادهم المعلن للدعم غير المحدود هم المطالبون وهم المتهمون بالتقصير وبعدم توفير ضمانات الحياة لإنجازهم اليتيم.
ليس التقصير في الدبلوماسية التي أعطت الأخضر فرصة لتأكيد كفاءته الممتازة.
وليس مبعث الشكوى نقص الدعم الدولي (والعربي)، فالبيانات تزن أطناناً والتصريحات تطن في أذن المواطن اللبناني على مدار الساعة كمثل قفير النحل،
لكن هذا الدعم السياسي والمبدئي لا يكفي لإقامة دولة فوق ركام الحرب الأهلية، ولا يحل مشكلة في مثل خطورة الانقسام والتمرد على الشرعية بذرائع طائفية.
ثم إن مثل هذه الدولة المنوي إقامتها تعوزها أسباب الحياة… الأسباب المادية “التافهة” للحياة، كمثل المال والجيش والقدرة على تلبية المطالب البسيطة لشعب منكوب.
ومع الترحيب، مرة أخرى، بهذا الفدائي العربي الذي أعطى لبنان أكثر من بعض بنيه، فالتمني أن لا يكون قادماً في مهمة من نوع “تقصي الحقائق” أو “الاستماع” أو “تبادل الآراء” إلى آخر ما ابتكرته الدبلوماسية (الأميركية خاصة) من تعابير غامضة لطمس الموضوع الأصلي للقاءات.
ولا يحتاج الأخضر الإبراهيمي لمن يلفته إلى أن اتفاق الطائف قد تكتب له الحياة على أيدي الآخرين. ولكن موته لا يكون – إذا ما وقع – إلا على أيدي أهله ذاتهم.
والياس الهراوي يكون رئيساً بقدر ما يكون ابناً باراً باتفاق الطائف، فإذا ما هدد الاتفاق فلن يستطيع الهراوي حمايته واستنقاذ شرعيته والرئاسة.
وحرب ميشال عون، بداية وانتهاء، هي حرب على اتفاق الطائف، بقدر ما هو اتفاق ومشروع حل، كما إنها حرب على أهل الاتفاق والحل وبأسمائهم الصريحة من غير ألقاب الجلالة والفخامة وشرف حماية الأماكن المقدسة.
عقبى لشاوسنا…
لم يفاجئ الرئيس المصري حسني مبارك بقراره إقالة وزير داخليته اللواء زكي بدر من منصبه لا المصريين في الداخل ولا المعنيين والمتابعين لشؤون مصر في الخارج.
لقد استهلك هذا الوزير الذي اشتهر بالفظاظة والبذاءة وسلاطة اللسان نفسه وتوهم إن له قوة ذاتية منفصلة عن موقعه في إطار الشرعية وضمن أدواتها.
ومنصب وزير الداخلية في مصر موقع ممتاز، وشهرة بعض وزراء الداخلية عبر العهود المختلفة كانت تغلب على شهرة رئيس الحكومة وسائر الوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية عموماً.
فهيبة الدولة ترتبط أكثر ما ترتبط بوزارة الداخلية، وإذا كان الرئيس هو القائد والزعيم السياسي فإن وزير الداخلية هو “الضابط” الفعلي مع بعض ملامح “الحاكم” في بلد للدولة فيه مكانة تلامس القداسة.
لكن زكي بدر ارتكب خطيئة وقع فيها غيره من أسلافه حين توهم إنه من باب الشرطة والقمع ومطاردة المعارضة يمكن أن يتحول من أداة تنفيذية لسياسة الرئيس إلى شريك في القرار السياسي، بل وإلى راسم للسياسة، أقله في الداخل.
ولقد اصطدم زكي بدر بسبب من فظاظته وسوء تقديره لموقعه ودوره بالمؤسسات الرسمية والشعبية: تعارك بالأيدي مع النواب في قلب مجلس الشعب، وشتم المعارضين من فوق المنابر في حين إنهم جميعاً مدجنون ولازمون للديكتور الديموقراطي ومسلمون بقيادة حسني مبارك وشرعية نظامه.
وليس صحيحاً إن زكي بدر كان “عدواً” للتيار الإسلامي وحده. الصحيح إنه اتخذ موقع الخصم من كل صاحب رأي، سواء أكان على رأس حزب كفؤاد سراج الدين (الباشا) أم كان مجتهداً بقلمه وفكره ومحاوراً هادئاً كالزميل أحمد بهاء الدين.
العارفون بمصر يقولون إن مرحلة كاملة قد انطوت وطوت معها الرجلين القويين في قلب النظام: وزير الحربية (السابق) المشير عبد الحليم أبو غزالة، ووزير الداخلية (السابق) اللواء زكي بدر.
وهم يضيفون إن “الحرب” بين الدولة وبين التيار الإسلامي، خاصة. وأحزاب المعارضة عموماً ستعرف طوراً جديداً هو أقرب إلى الحوار والنقاش المفتوح منه إلى التصدي بقوات الأمن المركزي وأساليب المباحث… سيما وإن التيار الإسلامي ذاته كان يستمد الكثير من أسباب قوته وسمعته من المواجهة “الرسمية” المباشرة له وبالبوليس.
لقد أنهى زكي بدر مهمته… وعاد التيار الإسلامي إلى حجم مقبول على لوحة الحياة السياسية في البلاد. ومن الخطر أن يُضرب أكثر فيقوى أو يضعف أكثر فيحدث فراغاً، والفراغ مؤذ ومجلبة سوء!
ومن النكات الرائجة في القاهرة الآن أن رجلاً سال صديقاً له عائداً من رومانياً : ما أخبار بوخارست؟! فأجابه: – لقد طار شاوسكو… فقال الأول: – عقبى لشاوسنا…
وعقبى لكل زكي بدر يطارد المعارضين والمعترضين وأصحاب الرأي في كل أرض عربية.
حتى الحكي؟!
للمناسبة: خلافاً لما اشتهر عن حكام الكويت من حنكة وريبة وحذر فإنهم يواصلون اتخاذ إجراءاتهم القمعية ضد أبسط مظاهر حرية التعبير في هذه الإمارة المذهبة.
وبين الاجراءات التي تشي بضيق الصدر وقصر النظر قرار لوزير داخلية الكويت بمنع أية تظارة سياسية، والذي صدر في أعقاب قيام الشرطة بتفريق تظاهرة مساء الاثنين الماضي في ضاحية الجهراء بمدينة الكويت.
كان سبب التظاهرة المطالبة بعودة الحياة النيابية إلى هذا البلد الذي لم يعرف شعبه بالتطرف، والذي لا تعوز دولته الامكانات المادية لتوفير الرفاه لمواطنيها… وبين أسباب الرفاه حق “الحكي”!
عقبى لشاوسنا!
فلسطين: قبر اليهود!
*قلة من القادة هم الذين يشغلهم التاريخ، ويتعاملون معه – بالماضي فيه والحاضر والمستقبل – كوحدة متكاملة، كسياق ينظمه منطق ويحدد له مساره والتداعيات المترتبة عليه.
العقيد معمر القذافي مسكون بحدس التاريخ، بهاجس التاريخ، بهم التاريخ، ليس فقط بمعنى موقعه الشخصي فيه ومنه، وإنما بموقع العرب كأمة، فيه، وابعد من ذلك: بمصير الإنسان في كل أرض.
وفي مؤتمره الصحافي الأخير توقف معمر القذافي أمام ثلاث مسائل لها صلة مباشرة بالتاريخ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً:
المسألة الأولى – التحولات الهائلة التي تهز الكون انطلاقاً من دول أوروبا الشرقية، والتي تعيد القرار إلى أصحابه الشرعيين أي إلى الجماهير وفي الشارع،
المسألة الثانية – ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي يجري الآن نقضها وإلغاء بعضها (إقدام موسكو على إلغاء المعاهدات السرية مع هتلر حول جمهوريات البلطيق الثلاث). وصولاً إلى الكيان الصيهوني على أرض فلسطين بوصفها بعض هذه الترتيبات. واستطراداً مصير اليهود مستقبلاً فيها.
المسألة الثالثة – دور اليابان وحقها في أن تتخلص من الهيمنة الأميركية وفي إقامة جيشها الوطني للدفاع عن نفسها، وكذلك حقها في استعادة بعض الجزر التي تخضع الآن للاتحاد السوفياتي.
ولأن معمر القذافي ينتدب نفسه لمهمات فكرية جليلة عنوانها تمكين الإنسان من تحقيق ذاته وذلك بأن تكون في يده السلطة والثروة والسلاح، فقد وجد رابطاً مكيناً بين طروحاته في “الكتاب الأخضر” وبين ما يجري من تدمير لفكرة الحكم بالحزب في دول أوروبا الشرقية. ومن هنا فقد رفع صوته محذراً شعوب هذه الدول من أن تختار النقيض البائس كما تقدمه أوروبا الغربية، أي تعدد الأحزاب.
ففي رأي القذافي لا نيابة عن الشعب، والتمثيل تدجيل، والحكم النيابي حكم غيابي، ومن تحزب خان، والأحزاب هي قبائل العصر الحديث، والحل الذي يقدمه لأزمة الديموقراطية هو المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية التي تشكل مرتكز النظام الجماهيري.
على إن الخطير في حديث القذافي إلى الصحافيين، هذه المرة، هو طرحه الجديد لمسألة اليهود كأقلية، ولمصيرهم في فلسطين. ومن ثم اقتراحه لحل مسألتهم.
قال القذافي:
“أنا رغم أنني عربي، وأعرف إن العربي الآن مستهدف من طرف الصهيونية التي قامت لها دولة بفلسطين كنتيجة للحرب العالمية الثانية.
“رغم هذا، أنا أعترف بأن اليهود مضطهدون في العالم، وهذه جريمة ترتكبها أوروبا وأميركا وبقية دول العالم باستثناء البلاد العربية… لماذا يهاجر اليهود من الاتحاد السوفياتي؟ هذا يعني أن هناك اضطهاداً. لماذا يهاجر اليهود من أميركا؟ ومن أوروبا؟! هذا يعني أن أميركا تضطهد اليهود وإن أوروبا تضطهد اليهود…
“كيف تلغى إسرائيل كترتيب من ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية؟
“أنا لا أدعو إلى الزحف على اليهود وقتلهم، إذا كانت هناك إمكانية للسلام. ولكنني أدعو اليهود الذين اضطهدتهم أوروبا وأجبرتهم على الهجرة إلى فلسطين أن يعودوا إلى هذه البلدان… الذين هاجروا من الاتحاد السوفياتي هم مواطنون سوفيات وهم من قبائل الخزر، وقبائل الخزر ليست فلسطينية، بل هي قبائل بلطيقية اعتنقت اليهودية. لماذا تضطهد هذه القبائل؟ وتجبر على أن تهاجر إلى فلسطين؟ وما هي فلسطين؟ هي أرض محدودة، وأرض معرضة للزحف عليها في أي موقت، والشعب الفلسطيني قائم على تحريرها… وإن الذين يدفعون اليهود إلى فلسطين يريدون القضاء على اليهود.
“إن الذين يدفعون اليهود إلى فلسطين ويؤيدون دولتهم في فلسطين هم الأعداء الحقيقيون لليهود، لأنهم يريدون التخلص منهم بكيفية ظاهرها الرحمة وباطنها العداء. ظاهرها التعاطف ولكن باطنها هو التخلص منكم وإلقاؤكم في فلسطين لكي ينقض عليكم العرب في يوم ما. وإن تحرير فلسطين بالنسبة للعرب، إذا استمرت الوضعية على ما هي عليه هي مسألة وقت فقط واستعداد. وبالتالي فإن اليهود موجودون في القبر.
“ففلسطين هي قبر لليهود، وكل مهاجر إنما يأتي إلى القبر. وسيأتي يوم سيهال التراب على هذا القبر ويردم اليهود فيه، أما متى يتحقق هذا فهذه مسألة وقت فحسب”.
منطق جديد لمعالجة مشكلة قديمة ومستعصية.
وإذا كان هيردوت قد قال ذات يوم: “من ليبيا يأتي دائماً الجديد”. فهل ثمة من هو مستعد الآن لسماع هذا الجديد الآتي من ليبيا؟!
وأحد وجوه مأساة معمر القذافي إن طروحاته الفكرية أكبر بكثير من أن تتسع لها بلاده القليل عدد سكانها، وإن الموقع يفقد المنطق الكثير من وجاهته.
ولعل بين ما يمض معمر القذافي ا لآن أن أحداً لا يريد الاعتراف بأن في البيريسترويكا بعض التأثر بكتابه الأخضر، برغم أنه يرى في ما حصل ويحصل في أوروبا الشرقية تحقيقاً لتنبؤاته حول الثورة الشعبية ودور الجماهير المباشر والحاسم في صنعها. متى استعادت إلى يدها القرار وعادت فأعادت الروح إلى الشارع.
والشارع العربي يبدو في بعض اللحظات وكأنه مسدود بلا مخرج، ويبدو في حالات أخرى مثل “درب السد الذي لا يرد” كما تروي أساطير الشاطر حسن.

Exit mobile version