مكابر من ينكر على العماد ميشال عون إنه قد سجل، خلال الأيام القليلة الماضية وعبر الصدام مع “القوات” وبعده، مجموعة من النقاط بعضها لصالح فكرة الدولة و”الشرعية” وبعضها الآخر لصالح شخصه وطموحاته.
ولا بد أن يسجل للعماد عون إنه أتاح، أخيراً، لجيشه أن ينهي عصر التماهي مع الميليشيات “الأعراق” و”الأقوى” وهي “القوات اللبنانية”، الجيش الرديف أو ربما الجيش البديل للطائفة الممتازة.
فجيش العماد عون الآن أقرب إلى صورة “الجيش”، جيش الشرعية، جيش الدولة، مما كان في أي يوم مضى.
لقد استعاد الجيش اعتباره كمؤسسة “رسمية” تنتمي إلى الدولة بأكثر من انتمائها إلى الطائفة.
وأكد الجيش، بتماسكه في صدام من طبيعة طائفية، بحيث يسهل تصويره وكأنه اقتتال داخل الطائفة الواحدة، إن الولاء للدولة ما زال أقوى في ضباطه وأفراده من الولاء للمؤسسات التي تدعي المسؤولية عن حماية الطائفة وامتيازاتها،
بل أكد الجيش وعيه لحقيقة إن حماية “المسيحيين”، مثلها حماية “المسلمين” تكون بقيام الدولة وعلى يدها، وإن تقسيم البلد الواحد إلى “مجتمعات” بعدد طوائفه، يسقط الدولة بدءاً بجيشها بالذات،
فغياب الدولة هو الخطر الحقيقي والمدمر على الشعب جميعاً، على البلاد بأسرها، وحضورها إنقاذ للشعب بفئاته وطوائفه المختلفة.
كذلك فلا بد أن يسجل للعماد ميشال عون إنه من أجل “تظهير” صورة الدولة ارتضى أن يحتفظ لنفسه بمسافة عن المرجعية الدينية للطائفة الممتازة وهو يقاتل – من موقع الدفاع – الميليشيا القوية والغنية لهذه الطائفة.
صحيح إنه كان يدافع عن نفسه وعن “صلاحياته” وعن “سلطته” وعن “مشروعه السياسي”، فكان طبيعياً أن يرفض مساواة البطريرك الماروني له بسمير جعجع.
كان العماد عون محاصراً بخيار محدد: بصمت فينتهي لاجئاً أو شهيداً أو مجرد “ختم” أو “بصمة” تستخدمها “القوات” لتظهر ممارساتها وكأنها لخدمة الشرعية أو إنها برعايتها أو هي تتم باسمها، أو يتحرك فيسترد زمام المبادرة وتصير كلمته هي العليا، ويمكنه من ثم أن يحدد خطة سيره إلى طموحه الكبير.
على إن إنجاز العماد ميشال عون ما زال ناقصاً ومهدداً بمخاطر جدية قد تذهب به في أية لحظة،
فما تم حتى اليوم يتصل بالصراع حول السلطة في “الدويلة” وعليها، وإن كان قابلاً للتحجيير لصالح “الدولة” وحسابها، من حيث المبدأ.
لقد سلم سمير جعجع بحق العماد عون في أن يأخذ لنفسه ولجيشه صورة صاحب السلطة في “دويلة” الشرقية، وانطوى في “ثكناته” يراقب ويتابع ويستعد (؟!) للجولات التالية التي ستكون السياسة مسرحها وليس العسكر.
وها هو جيش العماد عون يمسك بما كان خراج يده من “حدود” الدويلة ومن مرافقها، والأهم: من عائدات هذه المرافق!
لكن هذا الإنجاز يظل شكلياً إن لم يدعم بما يحميه سياسياً،
بل إن هذا الإنجاز قد يتحول إلى مقتل، أو إلى فخ في غياب الحوار السياسي الجدي المفتوح على الوفاق مع الشركاء الآخرين في “الدولة”،
فلن يستطيع العماد عون وحده أن “يأخذ” الدولة بالعسكر، حتى “الدويلة” لم يأخذها ولا هو قادر على أخذها بالعسكر وحده.
والعماد عون يعرف أكثر من الجميع كم هي ملغمة أرض “الدويلة” التي يولونه الآن المسؤولية عنها بالكامل، من حيث الشكل على الأقل،
ولتكن البداية موقف البطريرك الماروني، الذي حول لقاء اللجنة العربية مع المراجع الروحية في الكويت إلى “احتفال فولكلوري”، وندوة سياسية بتعابير ذات رنين ديني.
بعد البطريرك يمكن الالتفات إلى مواقف القوى السياسية الأخرى في الشرقية، وهي على وجه العموم غير مطمئنة.
صحيح إن التحفظ إنما ينصب على طموح الجنرال للرئاسة، ولكنه قابل لأن يوظف من أجل تغليب القائلين بالدويلة على العاملين من أجل الدولة. فكثير من هذه “القوى” يتصرف الآن بمنطق غريب خلاصته: أكون أنا رأساً للدولة العتيدة، أو فلتبق الدولة مغيبة وبلا رأس، ولا بأس من أن أبقى مزيداً من الوقت “رعية” في “دويلة” لا سلطة فيها لغير ميليشيا الطائفة – الدويلة!
هل من سبيل لموقف البطريرك الماروني الذي يقول بالدولة ويناضل حتى تأتي – إذا ما أتت – وفق تصوره الخاص المتناقض – من حيث المبدأ – مع تصور الجنرال الطامح؟!
إن البطريرك يقدم الطائفة على الجمهورية، ويقدم الرئاسة على الإصلاح، ويقدم المدنيين على الجنرال.
والمعضلة إن أي توافق بين البطريرك العماد لا بد أن يتم على حساب صورة الدولة القابلة للحياة، أي الدولة القديمة معدلة ومنقحة ومجملة بقدر من الاصلاح لتكون مقبولة من الطوائف الأخرى،
أما استمرار التعارض بين الجنرال والبطريرك فمن شأنه أن يعطل التقدم في اتجاه الدولة، مستبقياً الدويلة وقد بات رجلها الأول ميشال عون بدلاً من سمير جعجع، وجيشها هو جيش الجنرالا بدلاً من “القوات اللبنانية”،
بهذا يكون ميشال عون قد ورث الدويلة بكل عدائيتها لشروط قيام الدولة، ومن بينها هذه الأسلام الشائكة، أو خطوط التماس القائمة بينها وبين سائر أنحاء لبنان،
وبهذا يكون العماد قد مشى إلى الفخ بقدميه، إذ يكفي افتعال اشتباك ما على حدود الدويلة، وما أكثر القوى التي يمكن أن تعمل لافتعال هذا الاشتباك، فتكون الضحية الأولى فيه فكرة الدولة التي سيوجه إليها الرصاص باعتبار رئاستها مطمح الجنرال ومقصده.
ثم هل من سبيل لمصالحة بين الجنرال وبين القوى السياسية في الشرقية التي تدعمه قائداً للجيش وتعارضه رئيساً للدولة العتيدة؟
لقد كانت موقف النواب واضحة في لقاءات بكركي: فهم ضد الاشتباك، ومع الجيش (مبدئياً) من دون التفريط بـ “القوات”، ولكنهم – وبالإجماع تقريباً – ضد الجنرال، أو هم على الأقل ليسوا معه.
بعد ذلك لا بد من الإشارة إلى حقائق لها تأثيرها البالغ الخطورة أبرزها الدور الإسرائيلي في “الدويلة”،
ثم هناك، بدرجة أقل تأثيراً، دور النظام العراقي والعلاقة الخاصة بين “القوات” وبين جماعة عرفات.
وليس سراً إن القائم بالأعمال العراقي قد ضغط بكل ما يملك على الجنرال من أجل وقف إطلاق النار، بينما قواته محاصرة، فلما تأخر في الاستجابة تحرك طارق عزيز فأعلن من بغداد الحرص على طرفي الاشتباك، مساوياً بينهما وداعياً إلى وحدة الصف، وهو الموقف ذاته الذي اتخذه البطريرك الماروني فاستفز به الجنرال.
إن الجنرال الذي انتزع لنفسه صورة القوي قد دخل الآن الامتحان الجدي الذي قد يظهره أضعف مما يجب لمواجهة الحالة الناشئة عن نتائج الاشتباك مع “القوات”.
إنه مطالب بحمالة إنجازه بسلسلة من الانجازات الأكبر والأبقى أثراً،
فهل يقدر على هدم حدود الدويلة بدلاً من تدعيمها وتحصينها بحجة الاستمرار في واجب حمايتها، منفرداً بعدما كان يتقاسم هذه المهمة مع “القوات” سابقاً؟!
وهل يستطيع أن يمد جسوراً صلبة مع القوى ذات المصلحة في قيامة الدولة داخل الشرقية أولاً، ثم في سائر مناطق لبنان؟!
وهل يقدر أو يستطيع فتح باب الحوار الجدي والضروري مع دمشق التي قاطعها وقاطعته فترة طويلة (وثمينة).
فمن نافلة القول إن لا دولة في لبنان بالتضاد مع سوريا أو بتجاوزها أو باعتبارها مجرد دولة شقيقة وجارة.
ومؤكد إن الحوار مع دمشق لن يكون سهلاً ومفروشاً بالورد، فلا بد من إعادة بناء الثقة التي كادت تضيعها مواقف التطرف التي لجأ إليها الجنرال للمزايدة على “القوات” والظهور بمظهر المتشدد مثلها أو أكثر، حتى لا يخسر “الشارع المسيحي” ، كما يقول أنصاره.
ومؤكد إن هذا الحوار قد يحرك كل خصوم الجنرال، داخل الشرقية، بمن في ذلك أولئك الذين لم يقطعوا مع دمشق ولا قاطعوها، وما زالوا يعملون كل يوم لنيل بركتها… لكنهم لن يسلموا بأن يصلها الجنرال قبلهم وعلى حسابهم.
هل ينجح الجنرال؟
وقبل: هل يقدم الجنرال؟
لقد كان القرار بالاشتباك مع “ألقوات” صعباً، لكنه يبدو الآن وكأنه ليس الأصعب، بل إن ما بعده أصعب منه،
فهل يخرج الجنرال من حدود الدويلة في اتجاه الدولة، أم سيظل محاصراً فيها حتى يسقطه أعداء الدولة في الشرقية وحلفاؤهم خارجها ممن لا يريدون جنرالات في دويلاتهم، أو ممن لا يريدون جنرالاً على رأس دولة لبنان المستقبل.
كرة النار ما زالت في يد الجنرال،
وثمة من ينفخون في النار بعد،
… والكويت صحراء لا مياه فيها تنفع الجنرال في إطفاء ناره، أو هكذا يقول البطريرك الماروني.